عقد التأمين ورد السنهوري على القائلين بتحريمه

نشر بتاريخ : 2020-03-08


لا يزال الفقهاء مختلفين حول مدى شرعية عقد التأمين بأنواعه المختلفة سواء كان التأمين على الحياة أو ضد الإصابات والحوادث أو تأميناً ضد المسئولية المدنية، وعلى الرغم من تراجع الفتاوى التي تحرم التأمين ضد الحريق والتأمين من المسئولية المدنية والتأمين الصحي والاجتماعي لما بدا من حاجة المجتمع الملحة إليها، إلا أنه لا يزال بعض الفقهاء يرون عقد التأمين على الحياة عقداً محرماً ومخالفاً للشريعة الاسلامية لما فيه من مقامرة أو غرر، أو لأنه غير وارد ضمن العقود التي تناولها فقهاء المذاهب جميعاً بالشرح والتحليل.

وقد وقف الدكتور عبد الرزاق السنهوري منافحاً عن عقد التأمين بجميع أنواعه، لا محللاً له ولكن مبيناً لطبيعته وخصائصه وانتفاء علل التحريم التي ساقها الفقهاء في شأنه، وذلك على التفصيل التالي الذي نستهله بشرح السنهوري وتعليقه على المادة 747 من القانون المدني والمتعلقة بعقد التأمين، ثم رده الناجع على القائلين بتحريمه ومخالفته للشريعة الاسلامية، وذلك في مطلبين اثنين يسبقهما هذا التمهيد:

تمهيد:

تنص المادة 747 من القانون المدني على أن:

التأمين عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي إشترط التأمين لصالحه مبلغاً من المال أو إيراداً مرتباً أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين بالعقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن.

وقد أوردت المذكرة الإيضاحية للقانون المدني ما يلي:

عقد التأمين

نظرة عامة :

قد نظم المشروع عقد التأمين على اختلاف أنواعه، وهذا العقد على أهميته المتزايدة - لايزال في تقنيننا الحالي من العقود غير المسماة ولقد لجأت المحاكم المصرية إزاء هذا النقص - إلى استعارة أحكام القوانين الأجنبية لاسيما أحكام القانون الفرنسي الصادر في 13 يوليه سنة ۱۹۳۰ و نصوص المشروع قد اقتبست من مختلف التقنيات التي نظمت عقد التأمين في العصر الحديث ، ومن أهمها القانون السويسري الصادر في ۲ أبريل سنة ۱۹۰۸ فقد اتفقت الآراء على اعتباره تشريعا نموذجياً لعقد التأمين.

لعقد التأمين صورتان رئيسيتان: عقد التأمين ضد الأضرار التي قد تنشأ عن الحريق وغيره ، ويلحق به التأمين ضد المسئولية المترتبة على الفعل الضار، وعقد التأمين على الحياة ويلحق به التأمين ضد الحوادث.

ولمختلف هذه الأنواع أحكام عامة قد انتظمتها المواد التي استهل بها المشروع الفصل المخصص لعقد التأمين ، فأورد فيها ما يترتب على عقد التأمين بوجه عام من التزامات بعضها يقع على عاتق المؤمن له وبعضها ينشأ في ذمة المؤمن . على أن المشروع قد أفرد بعد ذلك لكل نوع من هذه الأنواع نصوصا خاصة . فنظم التأمين على الحياة في فرع على حدة استوعب فيه أحكامه ثم نظم التأمين ضد الحريق وهو أظهر حالات التأمين ضد الأضرار، على أنه قد جعل من أحكام هذا الفرع الثاني أحكاما عامة تنطبق على التأمين ضد الأضرار بوجه عام (انظر المادة ۸۲۹) وأخيرا، في فرعين مستقلين ، ونظم المشروع التأمين ضد المسئولية والتأمين ضد الحوادث و هما صورتان خاصتان لكل من النوعين الرئيسيين السابق ذكرهما .

وأحكام هذا الفصل تعتبر آمرة في مصلحة المؤمن له لا في مصلحة المؤمن ، فالمشروع قد قصد إلى حماية المؤمن لهم حماية خاصة تقوم إلى جانب ما يحققه القانون رقم ۹۲ لسنة ۱۹۳۹ من رقابة على الشروط التي تفرضها شركات التأمين. (مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني الجزء الخامس، الصفحة : 319).

 

 

المطلب الأول

تعليق السنهوري على المادة 747 مدني بشأن عقد التأمين

تنص المادة محل التعليق على ما يأتي :

"التأمين عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له ، أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه ، مبلغاً من المال أو إيراداً مرتباً أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين بالعقد ، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن ."

ويستخلص من هذا التعريف أن شخصاً يتعرض لخطر في شخصه كما في التأمين على الحياة ، أو في ماله كما في التأمين من الحريق أو التأمين من المسئولية ، فيعمد إلى تأمين نفسه من هذا الخطر ، بأن يتعاقد مع شركة تأمين يؤدي لها أقساطاً دورية في نظير أن يتقاضى منها مبلغاً من المال عند تحقق الخطر . وقد أسمى النص هذا الشخص "المؤمن له ، ويجوز أن يشترط دفع المال عند تحقق الخطر لشخص آخر غيره ، ففي التأمين على الحياة مثلاً قد يشترط المؤمن له دفع مبلغ التأمين لزوجته أو لأولاده ، فيسمى هذا الشخص الآخر "المستفيد" . أما شركة التأمين ، أو هيئة التأمين بوجه عام ، فقد أسماها النص "المؤمن" . ويدفع المؤمن له للمؤمن عادة أقساطاً سنوية متساوية القيمة ، وقد يدفع اشتراكاً دورياً يتفاوت مقداره في جمعيات التأمين التبادلية ، وقد يدفع مبلغاً مقطوعاً جملة واحدة كما إذا دفع هذا المبلغ في مقابل أن يتقاضى من المؤمن إيراداً مرتباً مدى حياته . والمؤمن يدفع عادة للمؤمن له أو للمستفيد عند تحقق الخطر مبلغاً من المال ، وقد يدفع له إيراداً مرتباً كما رأينا وقد يدفع له أي عوض مالي آخر كما إذا قام بتجديد البناء المحترق في التأمين من الحريق . وهذا كله منصوص عليه صراحة في المادة 747 مدني سالفة الذكر .

 ونرى من ذلك أن التعريف المتقدم الذكر قد أبرز عناصر عقد التأمين ، فهو عقد يبرم بين المؤمن له والمؤمن ، وقد يوجد إلى جانب المؤمن له شخص آخر يتقاضى مبلغ التأمين هو المستفيد . وأبرز التعريف أن التأمين يقوم على خطر أو حادث يخشى وقوعه ويبغي المؤمن له تأمينه منه ، ويلتزم بدفع مقابل التأمين للمؤمن وهو القسط أو الاشتراك أو الدفعة المالية الأخرى ، كما يلتزم المؤمن بدفع مبلغ التأمين للمؤمن له أو المستفيد عند وقوع الحادث أو تحقق الخطر وهو المبلغ المقطوع أو الإيراد المرتب أو العوض المالي الآخر .

والتعريف على هذا النحو يصلح تعريفاً وافياً لعقد التأمين من أحد جانبيه ، جانب العلاقة ما بين المؤمن والمؤمن له . ولكن للتأمين جانباً آخر ، ولا يمكن فهم التأمين على الوجه الصحيح دون أن يوضع هذا الجانب محل الاعتبار الأول . فشركة التأمين لا تبرم عقد التأمين مع مؤمن له واحد ، أو مع عدد قليل من المؤمن لهم . ولو أنها فعلت ، لكان عقد التأمين مقامرة أو رهاناً ، ولكان عقداً غير مشروع . إذ تكون الشركة قد تعاقدت مع مؤمن له على أنه إذا احترق منزله مثلاً – في التأمين على الحريق- دفعت له قيمته ، وإذا لم يحترق كان مقابل التأمين الذي دفعه المؤمن له حقاً خالصاً لها ، وهذا هو الرهان بعينه . ولكن الشركة تتعاقد مع عدد كبير من المؤمن لهم ، وتتقاضى من كل منهم مقابل التأمين ، ومن مجموع ما تتقاضاه من هؤلاء جميعاً تعوض العدد القليل الذين تحترق منازلهم ، فيفي ما تتقضاه من المؤمن لهم بما تدفعه من التعويض لبعضهم ، لأنها تحسب مقابل التأمين على أساس فني مستمد من الإحصاء. فالتأمين إذا نظر إليه من الجانب الآخر وهو العلاقة بين الشركة ومجموع المؤمن لهم ، لا يحمل طابع المقامرة أو الرهان، والشركة إذا حددت مقابل التأمين تحديداً دقيقاً على الأسس الفنية الصحيحة ، وأحسنت إدارة أعمالها ، لا تتعرض لخطر يزيد على الخطر الذي تتحمله الشركات عادة في أعمال التجارة الأخرى غير أعمال التأمين، فالمؤمن لهم، وجميعهم معرضون لخطر واحد يتحقق في العادة بالنسبة إلى عدد قليل منهم ولا يتحقق بالنسبة إلى الغالبية العظمى، يتعاونون جميعاً في تعويض العدد القليل منهم الذين يتحقق الخطر بالنسبة إليهم، فلا يتحمل هؤلاء الأخيرون الخسارة وحدهم . وبذلك يكفل التأمين للجميع توزيع الخسارة عليهم ، فلا يخسر أي منهم إلا مقابل التأمين الذي دفعه .

ومن ذلك نرى أن التعريف الذي قدمناه، إن صلح في العلاقة ما بين شركة التأمين ومؤمن له بالذات، فهو لا يصلح في العلاقة ما بين الشركة ومجموع المؤمن لهم، ولا يعين التعريف أهم دعامة يقوم عليها التأمين وهي توزيع الخسارة بين المؤمن لهم جميعاً . والتعريف الذي يجمع بين الجانبين معاً، فيبرز مقومات التأمين في وضوح ، تعريف قال به أحد الفقهاء الفرنسيين فشاع في الفقه الفرنسي إذ يعرف الأستاذ هيمار التأمين بأنه عقد "بموجبه يحصل أحد المتعاقدين ، وهو المؤمن له ، في نظير مقابل يدفعه ، على تعهد بمبلغ يدفعه له أو للغير، إذا تحقق خطر معين ، المتعاقد الآخر وهو المؤمن ، الذي يدخل في عهدته مجموعاً من هذه الأخطار يجرى مقاصة فيما بينها طبقاً لقوانين الإحصاء.

عقد التأمين عقد رضائي ، ملزم للجانبين ، ومن عقود المعاوضة . وهو أيضاً من العقود الاحتمالية ( عقود الغرر ) ، ومن العقود الزمنية ، ومن عقود الإذعان .

1- فعقد التأمين عقد رضائي ، ينعقد بمجرد توافق الإيجاب والقبول . ولكننا سنرى ، عند الكلام في إثباته ، أنه لا يثبت عادة إلا بوثيقة تأمين يوقع عليها المؤمن . وسنرى كذلك أنه أصبح في مشروع الحكومة عقداً شكلياً .

2- وهو عقد ملزم للجانبين ، والالتزامان الرئيسيان المتقابلان فيه هما التزام المؤمن له بدفع أقساط التأمين والتزام المؤمن بدفع مبلغ التأمين إذا وقعت الكارثة المؤمن منها . ويلاحظ أن التزام المؤمن له بدفع أقساط التأمين التزام محقق ، ينفذ عادة على آجال معينة ، كل شهر أو كل ثلاثة شهور أو كل سنة أو نحو ذلك . أما التزام المؤمن فهو التزام غير محقق ، إذ هو التزام احتمالي وليس هو التزاماً معلقاً على شرط واقف هو تحقق الخطر المؤمن منه ، لأن تحقق الخطر ركن قانوني في الالتزام وليس مجرد شرط عارض . ولو كان تحقق الخطر شرطاً واقفاً، لأمكن تصور قيام التزام المؤمن بدونه التزاماً بسيطاً منجزاً، وهذا لا يمكن تصوره لأن التزام المؤمن مقترن دائماً بتحقق الخطر، ولا يمكن فصل الاثنين أحدهما عن الآخر .

3- وهو من عقود المعاوضة، إذ كل من المتعاقدين يأخذ مقابلاً لما أعطى ، فالمؤمن يأخذ مقابلاً، هو أقساط التأمين التي يدفعها المؤمن له . وكذلك المؤمن يأخذ مقابلاً لما يدفعه، هو مبلغ التأمين إذا وقعت الكارثة .وقد يبدو أن المؤمن له لا يأخذ مقابلاً إذا لم تقع الكارثة إذ يكون المؤمن غير ملتزم بشيء نحوه، ولكن الواقع أن المقابل الذي يأخذه المؤمن له في نظير دفع أقساط التأمين ليس هو مبلغ التأمين بالذات فقد يأخذه وقد لا يأخذه ، ولكن المقابل هو تحمل المؤمن لتبعة الخطر المؤمن منه سواء تحقق الخطر أو لم يتحقق ، وتحمل المؤمن لهذه التبعة ثابت في الحالتين .

4- وهو من العقود الاحتمالية أو عقود الغرر، وقد أورده التقنين المدني ضمن هذه العقود بعد المقامرة والرهان والإيراد المرتب مدى الحياة. ومعنى أن عقد التأمين عقد احتمالي هو أنه في العلاقة ما بين المؤمن ومؤمن له بالذات يكون احتمالياً من الناحية القانونية المحضة ، فالمؤمن وقت إبرام العقد لا يعرف مقدار ما يأخذ ولا مقدار ما يعطي إذ أن ذلك متوقف على وقوع الكارثة أو عدم وقوعها ، وكذلك الحال بالنسبة إلى المؤمن له فمقدار ما يأخذ ومقدار ما يعطي متوقف هو أيضاً على وقوع الكارثة أو عدم وقوعها . ولكن إذا تركنا هذا الجانب القانوني المحض إلى الجانب الفني الاقتصادي ، ونظرنا إلى علاقة المؤمن لا بمؤمن له بالذات بل بمجموع المؤمنين ، تبينا أن عقد التأمين ليس احتمالياً لا بالنسبة إلى المؤمن ولا بالنسبة إلى المؤمن له . فهو ليس احتمالياً بالنسبة إلى المؤمن، إذ المؤمن إنما يأخذ الأقساط من المؤمن لهم ثم يعيد توزيعها على من وقعت الكارثة به منهم ، بعد أن يخصم مصروفات الإدارة ، فهو إذا أحسن تقدير الاحتمالات والتزم الأسس الفنية الصحيحة في التأمين ، لم يعرض نفسه لاحتمال الخسارة أو لاحتمال المكسب بأكثر مما يعرض نفسه لذلك أي شخص آخر يعمل في التجارة . وليس عقد التأمين احتمالياً بالنسبة إلى المؤمن له ، فالعقد الاحتمالي هو الذي يتوقف على الحظ والمصادفة ، في حين أن المؤمن له إنما يقصد بعقد التأمين عكس ذلك تماما؟ً ، فهو يريد أن يتوقى مغبة الحظ والمصادفة ، ويتعاون مع غيره من المؤمن لهم على توزيع شرور ما يبينه الحظ لهم جميعاً بحيث لا ينال أياً منهم من هذه الشرور إلا مقدار يسير يستطيع تحمله في غير عناء . فهو ، إذا لم تتحقق الكارثة ، لم يخسر الأقساط التي دفعها ، إذ أن هذه الأقساط إنما دفعها مقابلاً لتعاون سائر المؤمن لهم معه وقد تعاونوا . وهو، إذا تحققت الكارثة ، لم يكسب مبلغ التأمين ، إذ أن هذا المبلغ ليس إلا تعويضاً لما حاق به من الخسارة وقد جاء ثمرة لهذا التعاون . فعقد التأمين بالنسبة إلى المؤمن له ليس إذن عقداً يقصد به تحمل أثر الحظ كما هو الأمر في المقامرة والرهان ، بل هو على العكس من ذلك عقد يقصد به إبعاد أثر الحظ بقدر المستطاع .

5- وهو من العقود الزمنية ، لأنه يعقد لزمن معين ، والزمن عنصر جوهري فيه ، ويلتزم المؤمن لمدة معينة ، فيتحمل تبعة الخطر المؤمن منه ابتداء من تاريخ معين إلى نهاية لمدة معينة ، فيتحمل تبعة الخطر المؤمن منه ابتداء من تاريخ معين إلى نهاية تاريخ معين . كذلك المؤمن له يلتزم للمدة التي يلتزم لها المؤمن ، ويوفي التزامه أقساطاً متتابعة على مدة هذه المدة ، ويجوز أن يوفيه دفعة واحدة ولكن يراعى في تقدير هذه الدفعة الزمن المتعاقد عليه . ويترتب على أن عقد التأمين عقد زمني أنه إذا فسخ هذا العقد أو انفسخ ، لم يكن ذلك بأثر رجعي ، ولم ينحل العقد إلا في وقت الفسخ أو الانفساخ ، وما نفذته قبل ذلك يبقى قائماً ، وبوجه خاص لا يسترد المؤمن له من المؤمن الأقساط المقابلة للمدة التي انقضت قبل حل العقد.

6 – وهو من عقود الإذعان ، والمؤمن هو الجانب القوي . ولا يملك المؤمن له إلا أن ينزل عند شروط المؤمن ، وهي شروط أكثرها مطبوع ، ومعروضة على الناس كافة ، وهذه هي أهم خصائص عقد الإذعان . على أن تدخل المشروع في تنظيم عقد التأمين لحماية المؤمن لهم خفف كثيراً من تعسف بالمؤمن له . هذا إلى أن قيام التأمين على الأسس الفنية الصحيحة يمنع أحد الطرفين من أن يجور على الآخر ، ويجعل التأمين يؤدي مهمته الحقيقية وهي تنظيم التعاون بين المؤمن لهم المعرضين لخطر مشترك ومساهمة كل منهم بنصيبه فيه إذا نزل بأحد منهم ، ويجعل شركة التأمين تقوم بدورها الصحيح وهو دور الوسيط بين المؤمن لهم لتنظيم التعاون فيما بينهم ، لا دور المتعاقد القوي الذي يستغل ضعف المتعاقد الآخر .

7– وهو من عقود حسن النية والمقصود بحسن النية هنا ليس هو المعنى المألوف والا فان كل العقود لا عقد التامين وحده تعتبر من عقود حسن النية وإنما المقصود لا عقد التامين وحده تعتبر من عقود حسن النية وإنما المقصود انه عقد التأمين بوجه خاص يجعل المؤمن تحت رحمة المؤمن له في خصوص الإدلاء بالبيانات اللازمة عن الخطر المؤمن منه وفي وجوب توفى وقوع الكارثة او الحد من آثارها إذا وقعت والمؤمن إنما يعتمد في ذلك اعتمادا كاملا عن حسن نية المؤمن له فاذا اخل هذا بواجب حسن النية فلم يدل بجميع البيانات اللازمة عن الخطر المؤمن منه او قصر في اتخاذ الاحتياطات لدرء الخطر أو لمنع تفاقمه بعد وقوعه ، فإن هذا الاخلال يكون خطير وقد يكون جزاؤه سقوط حق المؤمن له فمبدا حسن النية يلعب دورا كبيرا في مجال عقود التأمين بالنسبة لطرق التعاقد ليس فقط عن تنفيذ العقد كما هو الحال بالنسبة لسائر العقود بل أيضا عند التعاقد .

عناصر التأمين : رأينا أن المادة 747 مدني تعرف عقد التأمين بأنه "عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغاً من المال أو إيراداً مرتباً أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين بالعقد ، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن" . ويتبين من هذا التعريف أن العنصر الجوهري في التأمين هو الخطر المؤمن منه ، وهذا الخطر يستتبع التأمين منه أن يدفع المؤمن له قسط التأمين ، وأن يدفع المؤمن مبلغ التأمين إذا تحقق الخطر . فهناك إذن عناصر ثلاثة للتأمين : الخطر المؤمن منه ، وقسط التأمين ، ومبلغ التأمين .

العنصر الأولى – الخطر المؤمن منه : الغرض من عقد التأمين هو دائماً تأمين شخص من خطر يتهدده ، أي من حادث يحتمل وقوعه ، فإذا ما تحقق الخطر ووقع الحادث سمي كارثة على أن الخطر والكارثة لهما في عقد التأمين مدلول أوسع من المدلول المألوف ، إذ الخطر والكارثة يستعملان عادة في شر يتهدد شخصاً ، فإذا ما تحقق الخطر ووقع الشركان كارثة . وهذا هو أيضاً الغالب في عقد التأمين، فيؤمن الشخص نفسه من الحريق، أو من السرقة، أو من الإصابات، أو من الوفاة، أو من المسئولية . ولكن مع ذلك قد يكون الحادث المؤمن منه حادثاً سعيداً، فهناك تأمين الأولاد يتقاضى المؤمن له فيه مبلغ التأمين كلما يرزق ولداً، وهناك تأمين الزواج يتقاضى المؤمن له فيه مبلغ التأمين إذا ما تزوج قبل بلوغه سناً معيناً، وهناك تأمين المهر يكون المستفيد فيه أحد أولاد المؤمن له إذا عاش إلى تاريخ معين وهو التاريخ الذي يطلب أن يتزوج فيه فيكون في حاجة إلى المهر، وهناك التأمين لحالة البقاء يتقاضى فيه المؤمن له مبلغ التأمين إذا عاش إلى تاريخ معين ، فهذه كلها حوادث سعيدة ومع ذلك يجوز التأمين منها .

ولما كان الخطر المؤمن منه هو المحل الرئيسي في عقد التأمين ، فسيكون مكانه في البحث عند الكلام في أركان العقد .

العنصر الثاني – قسط التأمين : وقسط التأمين هو المقابل المالي الذي يدفعه المؤمن له للمؤمن لتغطية الخطر المؤمن منه . فهناك إذن علاقة وثيقة بين قسط التأمين والخطر المؤمن منه . فقسط التأمين يحسب على أساس هذا الخطر ، وإذا تغير الخطر تغير معه قسط التأمين زيادة أو نقصاً وفقاً لمبدأ عام مسلم به في التأمين هو مبدأ نسبية القسط إلى الخطر ويكون قسط التأمين عادة مبلغاً سنوياً ثابتاً لا يتغير من سنة إلى أخرى ، ومع ذلك يصح أن يكون مبلغاً متغيراً في جمعيات التأمين التبادلية ويسمى القسط في هذه الجمعيات بالاشتراك .

ولا يحدد مقدار قسط التأمين اعتباطاً بطريقة تحكمية ، بل إن هذا التحديد خاضع لعوامل حتمية لابد من مراعاتها .

العنصر الثالث – مبلغ التأمين : ومبلغ التأمين هو المبلغ الذي يتعهد المؤمن بدفعه للمؤمن له، أو للمستفيد، عند تحقق الخطر المؤمن منه، أي عند وقوع الكارثة التي هي محل التأمين، كموت المؤمن له أو بقائه حياً بعد مدة معينة في حالة التأمين على الحياة، وكاحتراق المنزل المؤمن عليه في حالة التأمين من الحريق، وكرجوع المضرور على المؤمن له في حالة التأمين من المسئولية . فمبلغ التأمين وهو التزام في ذمة المؤمن هو المقابل لقسط التأمين وهو التزام في ذمة المؤمن له، ومن ثم كان عقد التأمين عقداً ملزماً للجانبين . وهناك ارتباط وثيق بين مبلغ التأمين وقسط التأمين، وقد رأينا عند الكلام في فن التأمين ، وفي حساب القسط الصافي، أن قسط التأمين يحسب على أساس مبلغ التأمين ، وكلما كان مبلغ التأمين كبيراً كلما ارتفع قسط التأمين . ويلاحظ من الأمثلة التي تقدم ذكرها أن مبلغ التأمين، وهو دين في ذمة المؤمن ، يكون تارة ديناً مضافاً إلى أجل غير معين ، وتارة يكون ديناً احتمالياً ، بحسب ما إذا كان الخطر المؤمن منه محقق الوقوع ولكن لا يعرف ميعاد وقوعه ، أو كان غير محقق الوقوع ، ففي التأمين على الحياة يكون الخطر المؤمن منه هو الموت ، وهو أمر محقق الوقوع ولكن لا يعرف ميعاد وقوعه ، فيكون مبلغ التأمين ديناً في ذمة المؤمن مضافاً إلى أجل غير معين . وفي التأمين من الأضرار ، سواء كان تأميناً على الأشياء كالتأمين من الحريق أو كان تأميناً من المسئولية ، يكون الخطر المؤمن منه – وهو وقوع الحريق مثلاً أو تحقق المسئولية – أمراً غير محقق الوقوع ، فيكون مبلغ التأمين ديناً احتمالياً في ذمة المؤمن .(الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرازق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء/ السابع المجلد/ الثاني ، الصفحة/ 1375).

  

المطلب الثاني

رد الدكتور السنهوري على القائلين بتحريم التأمين

إن الوقوف عند أحد جانبي عقد التأمين وهو جانب العلاقة ما بين المؤمن والمؤمن له بالذات ، دون مجاوزة ذلك إلى الجانب الآخر وهو جانب العلاقة ما بين المؤمن ومجموع المؤمن لهم حيث لا يكون المؤمن إلا وسيطاً بينهم ينظم تعاونهم جميعاً على مواجهة الخسارة التي تحيق بالقليل منهم ، هو الذي دفع بكثير ممن تصدوا للإفتاء في مشروعية التأمين في الفقه الإسلامي إلى القول بعدم مشروعيته . وتكون فتواهم في هذه الحالة صحيحة ، لأنه إذا نظر إلى عقد التأمين من جهة العلاقة ما بين المؤمن ومؤمن له بالذات ، ومن جهة هذه العلاقة وحدها ، لم يعدُ عقد التأمين أن يكون عقد مقامرة أو رهان، ويكون غير مشروع ، لا فحسب في الفقه الإسلامي ، بل أيضاً في القانون المصري وفي جميع القوانين التي تحرم المقامرة والرهان . ولكن الجانب الآخر من عقد التأمين – وهو الجانب الذي يجب الوقوف عنده لأنه هو الذي يؤصل عقد التأمين ويحدد طبيعته – يبرز التأمين في ثوبه الحقيقي ، ويبين أنه ليس إلا تعاوناً منظماً تنظيماً دقيقاً بين عدد كبير من الناس معرضين جميعاً لخطر واحد، حتى إذا تحقق الخطر بالنسبة إلى بعضهم تعاون الجميع على مواجهته بتضحية قليلة يبذلها كل منهم يتلافون بها أضراراً جسيمة تحيق بمن نزل الخطر به منهم لولا هذا التعاون . وشركة التأمين ليست في الواقع من الأمر إلا الوسيط الذي ينظم هذا التعاون على أسس فنية صحيحة ، وهي أسس معقدة في أشد الحاجة إلى جهود شركات ضخمة ، وسنعرض لها فيما يلي . فالتأمين إذن هو تعاون محمود ، تعاون على البر والتقوى : يبر به المتعاونون بعضهم بعضاً ، ويتقون به جميعاً شر المخاطر التي تهددهم . فكيف يجوز القول بأنه غير مشروع!!.

 وقد كثرت الفتاوي الشرعية في التأمين ، بعضها يحلله وبعضها يحرمه ، ومن الفتاوي البارزة في تحليله فتوى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في شأن التأمين على الحياة ، فقد سأله مدير شركة Mutual life insurance الأمريكية "في رجل اتفق مع جماعة ( قومبانية ) على أن يعطيهم مبلغاً معلوماً في مدة معلومة على أقساط معينة للاتجار فيما يبدو لهم فيه الحظ والمصلحة ، وأنه إذا أمضت المدة المذكورة وكان حياً يأخذ هذا المبلغ منهم مع ما ربحه من التجارة في تلك المدة ، وإذا مات في خلالها تأخذ ورثته أو من يطلق له حال حياته ولاية أخذ المبلغ المذكور مع الربح الذي ينتج مما دفعه ، فهل ذلك يوافق شرعاً؟" فأجاب المفتي : "اتفاق هذا الرجل مع هؤلاء الجماعة على دفع ذلك المبلغ على وجه ما ذكر يكون من قبيل شركة المضاربة ، وهي جائزة . ولا مانع للرجل من أخذ ماله مع ما أنتجه من الربح بعد العمل فيه بالتجارة ، وإذا مات الرجل في إبان المدة ، وكان الجماعة قد عملوا فيما دفعه ، وقاموا بما التزموه من دفع المبلغ لورثته أو لمن يكون له حق التصرف بدل المتوفي بعد موته ، جاز للورثة أو من يكون له حق التصرف في المال أن يأخذ المبلغ جميعه مع ما ربحه المدفوع منه بالتجارة على الوجه المذكور" ( المحاماة 5 رقم 460 ص 563 ) . وممن يفتون بتحليل التأمين الأستاذ مصطفى الزرقا ، فعنده أن الأصل في العقود الإباحة ، ولم توجب الشريعة حصر الناس في العقود المعروفة قبلاً ، ولم تمنعهم من أي عقد جديد تدعوهم حاجتهم الزمنية إليه إذا كان غير مخالف لنظام التعاقد الشرعي وشرائطه العامة . ثم يشبه التأمين بعقد الموالاة وضمان خطر الطريق والوعد الملزم ونظام العواقل في الإسلام ( مصطفى الزرقا – عقد التأمين وموقف الشريعة الإسمية : مجلة حضارة الإسلام بدمشق سنة 1381 هجرية – سنة 1961 ميلادية ص 33 – ص 45 وص 167 – ص 172 وص 302 – ص 309 وص 420 – ص 434 – وتعقيبه على الأستاذ محمد أبو زهرة ص 884 – ص 895 – وهذا كله تسجيل لما دار في أسبوع الفقه الإسلامي الذي عقد بدمشق في ربيع سنة 1961 ) .

وللأستاذ برهام محمد عطا الله بحث مفصل في التأمين وشريعة الإسلام (مجلة إدارة قضايا الحكومة 6 سنة 1962 العدد الثالث ص 78 وما بعدها ) يلخص فيه تلخيصاً وافياً ما صدر في هذه المسألة من فتاوي وما أبدى من أراء ، ورأيه يتفق مع رأي الأستاذ مصطفى الزرقا في أن الأصل في العقود الإباحة ، ولا محل لحصرها في عقود معينة . ولكنه يختلف عنه في أنه يرى بحق ألا يقاس عقد التأمين على غيره من العقود ، فهو يختلف عن كل ما شبهه به أنصار التحليل . فهو حلال ، لا لأنه يشبه عقداً آخر من العقود المعروفة ، بل لأنه عقد جديد لم يرد نص في تحريمه، والأصل في العقود الإباحة لا التحريم . وليس في التأمين شبهة غرر أو قمار إذ "التأمين نظام تعاوني بديع ، قائم على توزيع المخاطر وتشتيتها بين أكبر عدد ممكن من الأفراد الذين يتعرضون لنفس الخطر . أليس التعاون أساساً من أسس الإسلام ، ألم يقل رب العالمين : "وتعاونوا على البر والتقوى ، ؟ ثم أهناك تعاون أشد من ذلك التعاون في تحمل المصيبة التي تنزل؟ " ( المرجع السابق ص 89 ) – وأنظر أيضاً أحمد طه السنوسي في عقد التأمين في التشريع الإسلامي ( مجلة الأزهر المجلد 25 سنة 1953 ص 303) : ويقيس التأمين من المسئولية على عقد الموالاة – وانظر عيسوي أحمد عيسيوي في عقد التأمين من وجهة نظر الشريعة الإسلامية والقانون ( مجلة العلوم القانونية والاقتصادية عدد يوليه سنة 1962 ص 167 وما بعدها ) .

أما القائلون بتحريم التأمين ، فعلى رأسهم ابن عابدين ( جزء 3 ص 345 ) ، وكان بحثه في عقد التأمين البحري ( وسماه بالسوكرة ) في صدد تحديد عقد الذمة والاستئمان وما يبيحه للأجانب من الحقوق . ويذهب ابن عابدين إلى تحريم التأمين ، لأنه لا يشبه عقداً من العقود المعروفة في الفقه الإسلامي ، فهو ليس وديعة بأجر ، ولا يعتبر من قبيل مسألة "ضمان خطر الطريق" . وللشيخ محمد بخيت المطيعي رأي في التأمين لا يخرج عن رأي ابن عابدين ( انظر مقال الأستاذ عيسوي أحمد عيسوي السابق الإشارة إليه ص 187 – ص188 ) . وأفتى الشيخ عبد الرحمن قراعة في صدد التأمين من الحريق ، بتاريخ 15 يناير سنة 1925 ، بتحريم التأمين . ويقول إن ضمان الأموال إما أن يكون بطريق الكفالة، أو بطريق التعدي أو الإتلاف . فالتأمين من الحريق ليس بكفالة قطعاً، ولا هو ضمان تعد ولا ضمان إتلاف . وليس بعقد مضاربة ، لأن عقد المضاربة يلزم فيه أن يكون المال من جانب رب المال والعمل من جانب المضارب والربح على ما شرط ، وأهل الشركة ( شركة التأمين ) إنما يأخذون المبالغ التي يأخذونها في نظير ضمان ما عساه أن يلحق الملك المؤمن عليه من الضرر ، وتارة هذا الضرر يقع وتارة لا يقع ، فيكون هذا العمل قماراً معنى ، يحرم الإقدام عليه ( المحاماة رقم 394 ص 466 ) – وقضت المحكمة العليا الشرعية بأن دعوى الوارث استحقاقه لنصيبه في مبلغ بشركة السيكورتاه ، تعهد مدير الشركة بدفعه دفعة واحدة في ظرف مدة معينة لو مات المورث فيها نظير دفعه لشركة مبلغاً كل شهر ، غير صحيحة لاشتمالها على ما لا تجوز المطالبة به ( المحكمة العليا الشرعية 27 ديسمبر سنة 1926 المحاماة 7 رقم 545 ص 937 ) – وأبدى الأستاذ أحمد إبراهيم رأيه في شأن عقد التأمين على الحياة ، وذهب إلى تحريمه لأنه ليس بمضاربة ، وإذا قيل إنه قرض فهذا قرض جر نفعاً وهذا هو الربا وهو حرام . وإذا مات المؤمن له بعد دفع قسط واحد مثلاً ، وأدت الشركة مبلغ التأمين كله ، فهذه مقامرة ، وحياة الإنسان وموته لا يجوز أن تكون محلاً للتجارة ( مجلة الشبان المسلمين 13 عدد 3 في 7 نوفمبر سنة 1941 ) – وكذلك أبدى الأستاذ محمد أبو زهرة رأيه في رده على الأستاذ مصطفى الزرقا بعنوان "حول التأمين" ، فقال إن التأمين التعاوني والاجتماعي حلال لا شبهة فيه ، أما التأمين غير التعاوني فغير جائز ( يكرهه ) لأن فيه قماراً أو شبهة قمار ، وفيه غرر و رباً ، وهو صرف لا يجوز إلا بالقبض ، ولا توجد ضرورة اقتصادية توجبه ( مجلة حضارة الإسلام بدمشق سنة 1381 هجرية – سنة 1961 ميلادية ص 524 ) .

 وفيما قدمناه في هذه الآراء المختلفة نقف عند المسائل الآتية :

(أ) لا تصح التفرقة بين التأمين الاجتماعي والتأمين الفردي ، فكلاهما يقوم على أساس واحد ، ولا يختلفان إلا في أن الدولة في التأمين الاجتماعي هي التي تقوم بدور المؤمن . فمن قال بجواز التأمين الاجتماعي وجب أن يقول بجواز التأمين الفردي .

(ب ) لا يجوز قياس عقد التأمين على عقود أو نظم معروفة في الفقه الإسلامي ، فهو لا يشبه عقد المضاربة في شيء ، ولا هو كفالة ، ولا هو وديعة بأجر ، ولا هو عقد موالاة ، ولا يدخل في ضمان خطر الطريق ، ولا في الوعد الملزم ، ولا في نظام العواقل ، إلى آخر ما جاء من التشبيهات .

( ج ) وإنما التأمين عقد جديد له مقوماته وخصائصه ، وهو ليس بين العقود أو النظم التي عرفها الفقه الإسلامي . ويأخذ عليه المحرمون له أنه مقامرة ، وفيه غرر ، وينطوي على الربا .

( د ) أما أن فيه مقامرة ، فقد بينا أن عقد التأمين بعيد كل البعد عنها . فهو من الناحية الاقتصادية ليس بمقامرة ، لا بالنسبة إلى المؤمن فهو يأخذ الأقساط من المؤمن لهم ثم يعيد توزيعها عليهم ولا يعرض نفسه لاحتمال الخسارة أو المكسب بأكثر مما يعرض نفسه أي شخص آخر في تجارة مشروعة ، ولا بالنسبة إلى المؤمن له إذ هو لا يقامر معتمداً على الحظ والمصادفة بل على العكس من ذلك تماماً يقصد أن يتوقى شر الحظ والمصادفة ويتعاون مع غيره من المؤمن لهم على توزيع أضرار ما يبينه الحظ والمصادفة لهم جميعاً ولا يجوز أن نسمى التعاون مقامرة .

( هـ ) أما الغرر ، فقد بينا في كتابنا "مصادر الحق في الفقه الإسلامي" أن هناك تطوراً ملحوظاً في الفقه الإسلامي ، في هذه المسألة ، وأن أكثر المذاهب تطوراً فيها هو مذهب مالك ، وقد بين ابن رشد في عبارة جلية الأصل عند مالك في ذلك فقال : "والأصل عنده أن من الغرر ما يجوز لموضع الضرورة" ( مصادر الحق في الفقه الإسلامي للمؤلف جزء 3 ص 32 – ص33 ) .

( و ) وأما الربا ، فهذه مسألة لا تقتصر على عقد التأمين ، بل تتناول ضروباً كثيرة من التعامل ، وقد بحثناها بحثاً مفصلاً ، وميزنا بين ربا الجاهلية من جهة وبين ربا النسيئة وربا الفضل من جهة أخرى ، فالأول غير جائز إلا للضرورة ، والثاني غير جائز أيضاً إلا للحاجة . فإذا قامت الحاجة في نظام اقتصادي معين إلى دفع فوائد معتدلة على رؤوس الأموال ، كان هذا جائزاً مادامت الحاجة قائمة ، وإلا عاد الأمر إلى أصله من عدم الجواز ( انظر تفصيل ذلك في مصادر الحق في الفقه الإسلامي للمؤلف جزء 3 ص 196 – ص 277 ) .

( ز ) بقي أن يقال إن عقد التأمين لا يدخل في العقود المعروفة في الفقه الإسلامي وليس له نظير فيها ، وقد وردت هذه العقود على سبيل الحصر ، فأي عقد جديد لا يستند إليها يكون غير جائز . وقد سبق لنا أيضاً أن بحثنا هذه المسألة ، وقلنا في صددها ما يأتي : "هل العقود في الفقه الإسلامي مذكورة على سبيل الحصر ؟ يبدو لأول وهلة أنها كذلك . ففي كتب الفقه لا نجد نظرية عامة للعقد ، بل نجد على النقيض من ذلك عقوداً مسماة تأتي عقداً بعد عقد على ترتيب غير منطقي . ويختلف هذا الترتيب في كتاب عنه في كتاب آخر ، حتى ليظن الباحث أن الفقه الإسلامي لا يعرف إلا هذه العقود المسماة ، وأن أي اتفاق لا يدخل تحت عقد من هذه العقود لا يكون مشروعاً . ولكن هذه النظرة إلى الفقه الإسلامي نظرة سطحية ، فإن الباحث يلمح من خلال الأحكام التي يقررها الفقهاء في صدد هذه العقود المسماة أنهم يسلمون بإمكان أن يمتزج عقدان أو أكثر من هذه العقود في عقد واحد ، يجمع بين خصائص العقود التي امتزجت فيه . بل ويلمح أن هناك قاعدة فقهية مسلمة ، هي أن المسلمين عند شروطهم ، وأن كل اتفاق تتوافر فيه الشروط التي يقررها الفقه الإسلامي يكون عقداً مشروعاً . ويكفي أن نشير إلى ما جاء في البدائع في هذا الصدد : "وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال المسلمون عند شروطهم ، فظاهره يقتضي لزوم الوفاء بكل شرط إلا ما خص بدليل ، لأنه يقتضي أن يكون كل مسلم عند شرطه ، وإنما يكون كذلك إذا لزمه الوفاء به . . وهذا لأن الأصل أن تصرف الإنسان يقع على الوجه الذي أوقعه إذا كان أهلاً للتصرف والمحل قابلاً وله ولاية عليه ، ( البدائع جزء 5 ص 259 ) . ومن ثم فما ذكره الفقهاء من العقود المسماة ، إنما هي العقود التي يغلب أن يقع بها التعامل في ذمتهم ، فإذا استحدثت الحضارة عقوداً أخرى توافرت فيها الشروط المقررة فقهاً ، كانت عقوداً مشروعة" ( مصادر الحق في الفقه الإسلامي للمؤلف الجزء الأول ص 80 – ص 83 ) . ويؤخذ من ذلك أن عقد التأمين لا يجوز القول بعدم مشروعيته من ناحية أنه عقد جديد غير معروف في الفقه الإسلامي . وإما قد يتوهم أن يتسرب إليه عدم المشروعية من ناحية الربا أو من ناحية الغرر ، وقد سبق أن نفينا عنه كلا من الناحيتين . (الوسيط في شرح القانون المصري للدكتور/ عبد الرزاق السنهوري، الطبعة الثانية بتنقيح الدكتور/ مصطفى الفقي، دار النهضة العربية 1994 الجزء/ السابع المجلد / الثاني).

والله ولي التوفيق

مركز الراية للدراسات القانونية