الصلح على إنكار

نشر بتاريخ : 2019-08-22


 الصلح على إنكار تعريفه وآثاره

تنص المادة 549 من القانون المدني على أن: "الصلح عقد يحسم به الطرفان نزاعاً قائماً أو يتوقيان به نزاعاً محتملاً، وذلك بأن ينزل كل منهما على وجه التقابل عن جزء من إدعائه". 

وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للقانون المدني تعليقاً على هذه المادة ما يلي :  

دخل الصلح ضمن العقود التي ترد على الملكية ، لا لأنه ينقلها ، فسياتي أن الصلح كاشف للحقوق لا ناقل لها، بل لأنه يتضمن تنازلاً عن بعض ما يدعيه الطرفان من الحقوق، والتنازل عن الحق يرد على كيانه لا على مجرد ما ينتجه من الميزات.  

وقد رتب المشروع نصوص الصلح ترتيباً أقرب إلى المنطق من ترتيب التقنين الحالى ، فقسمها إلى أقسام ثلاثة، عرض في الأول منها إلى أركان الصلح ، فذكر الرضاء والأهلية والمحل والسبب، واستطرد إلى إثبات الصلح و تسجيله . وعرض في القسم الثاني الآثار الصلح، فبين أثره من حيث حسم النزاع، ومن حيث أنه كاشف لا منشیء، وقرر أن هذه الآثار يجب أن تفسر تفسيراً منضبطاً لا توسع فيه . وعرض في القسم الثالث إلى انقضاء الصلح ، أما التقنين الحالى فلم يراع تنسيقاً في بسط هذه الأحكام". 

وجاء في مذكرة المشروع التمهيدي لهذه المادة ما يلي: 

تعرف المادة ۷۳۷ (المادة 547 من التقنين المدني الحالي) الصلح و تبين أركانه، فهو عقد يحسم به الطرفان نزاعاً قائماً أو محتملاً بنزول كل منهما عن ادعاء له . وإلى جانب أركان العقد العامة ، وهي الرضاء والمحل والسبب ، توجد أركان خاصة هي (أ) نزاع قائم أو محتمل (ب) ونزول عن ادعاءات متقابلة ( ولفظ وادعاءات ، أدق من لفظ « حقوق ، الذي ورد في التقنين الحالي : م 532/ 653 ) فإن لم يكن هناك نزاع قائم ، أو بالأقل نزاع محتمل ، فلا يكون العقد صلحاً. كما إذا تنازل المؤجر للمستأجر عن بعض الأجرة ليسهل عليه الحصول على الباقي ، فهذا إبراء من بعض الدين وليس صلحاً

وقد قضت محكمة النقض تطبيقاً لذلك بأنه: "من اللازم لاعتبار العقد صلحاً في معنى المادة 549 من القانون المدني وجوب أن يتنازل كل من الطرفين عن جزء من ادعائه في سبيل الحصول على الجزء الباقي فان لم يكن هناك نزول عن ادعاءات متقابلة واقتصر التنازل على أحد الطرفين دون الآخر فلا يعد الاتفاق صلحاً. ( نقض مدنى في 19 نوفمبر سنة 1975 مجموعة احكام النقض السنة 26 رقم ۲۷۲ ص 1444 

والوافع أننا نرى كثيراً من مشاريع الصلح تقف عاجزة على عتبات صياغته، وتفشل في تجاوز عقبة الصياغة لاتفاق الصلح أو لورقة الصلح، بفضل ما يحشده كل طرف من ألفاظ وما يبتغي إضافته إلى اتفاق الصلح من عبارات يحسب أنها ستنفعه وتدين غريمه فيما بعد أو فيما لو فشل الصلح وصار كل منهم إلى حجته وأدلته أمام القضاء، ومن هذا المنطلق ودفعاً لمشاريع الصلح وتعزيزاً لها فقد عرف الفقه الاسلامي ما يُسمى بــ "الصلح على إنكار" أي أن يدخل المتخاصمان أو المتخاصمون في الصلح ويوقعان عليه قابلان بما تم الاتفاق عليه ليس إقراراً بعدم أحقيتهم فيما تنازلوا أو تخلوا عنه ولا إقراراً بما حصل عليه الخصم الآخر واعترافاً أحقيته له، وإنما رغبة من الجميع في درء مفاسد النزاع والشقاق، وتوفيراً للجهد والوقت والنفقات، وإعلاءً لمبادىء أسمى في التعايش المشترك وحسن العشرة والمعاشرة، فقد قبل أطراف الصلح ما ثبت في الاتفاق من حط لبعض الحقوق وإثبات لحقوق أخرى دون اعتراف أو إقرار من أي منهما. 

وبهذه الصياغة التي تعلي مبدأ سلطان الارادة وتعتبر تطبيقاً واقعياً للمبدأ القانوني المستقر "العقد شريعة المتعاقدين" والتي تتفق بذلك مع نصوص القانون، يستطيع الراغبون في الصلح المضي قدماً في جهودهم دون خوف أو وجل. 

ونعرض فيما يلي لما أوردته الموسوعة الفقهية الصادرة عن وزارة الأوقاف والشئون الاسلامية بدولة الكويت الشقيقة، في شأن الصلح وأنواعه على المذاهب الفقهية المعتبرة، بشىء من التفصيل اللازم:   

صُلْحٌ  

التَّعْرِيفُ 

1 - الصُّلْحُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُصَالَحَةِ وَالتَّصَالُحِ، خِلاَفُ الْمُخَاصَمَةِ وَالتَّخَاصُمِ  

قَالَ الرَّاغِبُ: وَالصُّلْحُ يَخْتَصُّ بِإِزَالَةِ النِّفَارِ بَيْنَ النَّاسِ. يُقَالُ: اصْطَلَحُوا وَتَصَالَحُوا  وَعَلَى ذَلِكَ يُقَالُ: وَقَعَ بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ، وَصَالَحَهُ عَلَى كَذَا، وَتَصَالَحَا عَلَيْهِ وَاصْطَلَحَا، وَهُمْ لَنَا صُلْحٌ، أَيْ مُصَالِحُونَ  

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: مُعَاقَدَةٌ يَرْتَفِعُ بِهَا النِّزَاعُ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ  

فَهُوَ عَقْدٌ وُضِعَ لِرَفْعِ الْمُنَازَعَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا بِالتَّرَاضِي  وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ 

وَزَادَ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى هَذَا الْمَدْلُولِ: الْعَقْدُ عَلَى رَفْعِهَا قَبْلَ وُقُوعِهَا - أَيْضًا - وِقَايَةٌ، فَجَاءَ فِي تَعْرِيفِ ابْنِ عَرَفَةَ لِلصُّلْحِ: أَنَّهُ انْتِقَالٌ عَنْ حَقٍّ أَوْ دَعْوَى بِعِوَضٍ لِرَفْعِ نِزَاعٍ، أَوْ خَوْفِ وُقُوعِهِ  

فَفِي التَّعْبِيرِ بِـ (خَوْفِ وُقُوعِهِ) إِشَارَةٌ إِلَى جَوَازِ الصُّلْحِ لِتَوَقِّي مُنَازَعَةً غَيْرَ قَائِمَةٍ بِالْفِعْلِ، وَلَكِنَّهَا مُحْتَمَلَةُ الْوُقُوعِ 

وَالْمُصَالِحُ: هُوَ الْمُبَاشِرُ لِعَقْدِ الصُّلْحِ  وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ: هُوَ الشَّيْءُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ إِذَا قُطِعَ النِّزَاعُ فِيهِ بِالصُّلْحِ  وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ، أَوِ الْمُصَالَحُ بِهِ: هُوَ بَدَلُ الصُّلْحِ  

 الأْلْفَاظُ  ذَاتُ الصِّلَةِ 

التَّحْكِيمُ 

2 - التَّحْكِيمُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: تَوْلِيَةُ حُكْمٍ لِفَصْلِ خُصُومَةٍ بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ. وَهَذِهِ التَّوْلِيَةُ قَدْ تَكُونُ مِنَ الْقَاضِي، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْخَصْمَيْنِ. وَيَخْتَلِفُ التَّحْكِيمُ عَنِ الصُّلْحِ مِنْ وَجْهَيْنِ 

أَحَدِهِمَا: أَنَّ التَّحْكِيمَ يُنْتَجُ عَنْهُ حُكْمٌ قَضَائِيٌّ، بِخِلاَفِ الصُّلْحِ فَإِنَّهُ يُنْتَجُ عَنْهُ عَقْدٌ يَتَرَاضَى عَلَيْهِ الطَّرَفَانِ الْمُتَنَازِعَانِ. وَفَرْقٌ بَيْنَ الْحُكْمِ الْقَضَائِيِّ وَالْعَقْدِ الرِّضَائِيِّ 

وَالثَّانِي: أَنَّ الصُّلْحَ يَتَنَزَّلُ فِيهِ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ أَوْ كِلاَهُمَا عَنْ حَقٍّ، بِخِلاَفِ التَّحْكِيمِ فَلَيْسَ فِيهِ نُزُولٌ عَنْ حَقٍّ. (ر: تَحْكِيم) 

الإْبْرَاءُ 

3 - الإْبْرَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ: إِسْقَاطِ الشَّخْصِ حَقًّا لَهُ فِي ذِمَّةِ آخَرَ أَوْ قِبَلَهُ. أَمَّا عَنِ الْعَلاَقَةِ بَيْنَ الصُّلْحِ وَالإْبْرَاءِ، فَلَهَا وَجْهَانِ 

أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصُّلْحَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ النِّزَاعِ عَادَةً، وَالإْبْرَاءَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ ذَلِكَ 

وَالثَّانِي: أَنَّ الصُّلْحَ قَدْ يَتَضَمَّنُ إِبْرَاءً، وَذَلِكَ إِذَا كَانَ فِيهِ إِسْقَاطٌ لِجُزْءٍ مِنَ الْحَقِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَقَدْ لاَ يَتَضَمَّنُ الإْبْرَاءَ، بِأَنْ يَكُونَ مُقَابِلَ الْتِزَامٍ مِنَ الطَّرَفِ الآْخَرِ دُونَ إِسْقَاطٍ 

وَمِنْ هُنَا: كَانَ بَيْنَ الصُّلْحِ وَالإْبْرَاءِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ، فَيَجْتَمِعَانِ فِي الإْبْرَاءِ  بِمُقَابِلٍ فِي حَالَةِ النِّزَاعِ، وَيَنْفَرِدُ الإْبْرَاءُ فِي الإْسْقَاطِ  مَجَّانًا، أَوْ فِي غَيْرِ حَالَةِ النِّزَاعِ، كَمَا يَنْفَرِدُ الصُّلْحُ فِيمَا إِذَا كَانَ بَدَلُ الصُّلْحِ عِوَضًا لاَ إِسْقَاطَ فِيهِ. (ر. إِبْرَاء) 

الْعَفْوُ 

4 - الْعَفْوُ: هُوَ التَّرْكُ وَالْمَحْوُ، وَمِنْهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. أَيْ مَحَا ذُنُوبَكَ، وَتَرَكَ عُقُوبَتَكَ عَلَى اقْتِرَافِهَا. عَفَوْتَ عَنِ الْحَقِّ: أَسْقَطْتَهُ. كَأَنَّكَ مَحَوْتَهُ عَنِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ  

هَذَا وَيَخْتَلِفُ الْعَفْوُ عَنِ الصُّلْحِ فِي كَوْنِ الأْوَّلِ إِنَّمَا يَقَعُ وَيَصْدُرُ مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ، بَيْنَمَا الصُّلْحُ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ طَرَفَيْنِ. وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى: فَالْعَفْوُ وَالصُّلْحُ قَدْ يَجْتَمِعَانِ كَمَا فِي حَالَةِ الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى مَالٍ. (ر. عَفْو) 

مَشْرُوعِيَّةُ الصُّلْحِ 

5 - ثَبَتَتْ مَشْرُوعِيَّةُ الصُّلْحِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإْجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ  

 

أَمَّا الْكِتَابُ 

أ - فَفِي قوله تعالي : (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ)  

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا عَامٌّ فِي الدِّمَاءِ وَالأْمْوَالِ وَالأْعْرَاضِ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ يَقَعُ التَّدَاعِي وَالاِخْتِلاَفُ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ  

ب - وَفِي قوله تعالي : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)  فَقَدْ أَفَادَتِ الآْيَةُ مَشْرُوعِيَّةَ الصُّلْحِ، حَيْثُ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ الصُّلْحَ بِأَنَّهُ خَيْرٌ، وَلاَ يُوصَفُ بِالْخَيْرِيَّةِ إِلاَّ مَا كَانَ مَشْرُوعًا مَأْذُونًا فِيهِ 

وَأَمَّا السُّنَّةُ 

أ - فَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه  - عَنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ». وَفِي رِوَايَةٍ: «إِلاَّ صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً» . وَالْحَدِيثُ وَاضِحُ الدَّلاَلَةِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصُّلْحِ  

ب - وَمَا رَوَى «كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ - رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا تَنَازَعَ مَعَ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ فِي دَيْنٍ عَلَى ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا: بِأَنِ اسْتَوْضَعَ مِنْ دَيْنِ كَعْبٍ الشَّطْرَ، وَأَمَرَ غَرِيمَهُ بِأَدَاءِ الشَّطْرِ» .  

وَأَمَّا الإْجْمَاعُ 

فَقَدْ أَجْمَعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الصُّلْحِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمُ اخْتِلاَفٌ فِي جَوَازِ بَعْضِ صُوَرِهِ  

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ 

فَهُوَ أَنَّ الصُّلْحَ رَافِعٌ لِفَسَادٍ وَاقِعٍ، أَوْ مُتَوَقَّعٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عِنْدَ النِّزَاعِ. وَالنِّزَاعُ سَبَبُ الْفَسَادِ، وَالصُّلْحُ يَهْدِمُهُ وَيَرْفَعُهُ، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ أَجَلِّ الْمَحَاسِنِ  

أَنْوَاعُ الصُّلْحِ 

6 - الصُّلْحُ يَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا خَمْسَةً  

أَحَدُهُمَا: الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ. (ر. جِهَاد، جِزْيَة، عَهْد، هُدْنَة) 

وَالثَّانِي: الصُّلْحُ بَيْنَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَهْلِ الْبَغْيِ. (ر. بُغَاة) 

وَالثَّالِثُ: الصُّلْحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إِذَا خِيفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، أَوْ خَافَتِ الزَّوْجَةُ إِعْرَاضَ الزَّوْجِ عَنْهَا. (ر. شِقَاق، عِشْرَةُ النِّسَاءِ، نُشُوز) 

وَالرَّابِعُ: الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي غَيْرِ مَالٍ. كَمَا فِي جِنَايَاتِ الْعَمْدِ. (ر. قِصَاص، عَفْو، دِيَات) 

وَالْخَامِسُ: الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ فِي الأْمْوَالِ. وَهَذَا النَّوْعُ هُوَ الْمُبَوَّبُ لَهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَهُوَ مَوْضُوعُ هَذَا الْبَحْثِ 

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلصُّلْحِ 

7 - قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَهُوَ - أَيِ الصُّلْحُ - مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَقَدْ يَعْرِضُ وُجُوبُهُ عِنْدَ تَعَيُّنِ مَصْلَحَةٍ، وَحُرْمَتُهُ وَكَرَاهَتُهُ لاِسْتِلْزَامِهِ مَفْسَدَةً وَاجِبَةَ الدَّرْءِ أَوْ رَاجِحَتَهُ  

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الصُّلْحُ نَوْعَانِ 

أ - صُلْحٌ عَادِلٌ جَائِزٌ. وَهُوَ مَا كَانَ مَبْنَاهُ رِضَا اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَرِضَا الْخَصْمَيْنِ، وَأَسَاسُهُ الْعِلْمُ وَالْعَدْلُ، فَيَكُونُ الْمُصَالِحُ عَالِمًا بِالْوَقَائِعِ، عَارِفًا بِالْوَاجِبِ، قَاصِدًا لِلْعَدْلِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ(فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ)  

ب - وَصُلْحٌ جَائِرٌ مَرْدُودٌ: وَهُوَ الَّذِي يُحِلُّ الْحَرَامَ أَوْ يُحَرِّمُ الْحَلاَلَ، كَالصُّلْحِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ أَكْلَ الرِّبَا، أَوْ إِسْقَاطَ الْوَاجِبِ، أَوْ ظُلْمَ ثَالِثٍ، وَكَمَا فِي الإْصْلاَحِ بَيْنَ الْقَوِيِّ الظَّالِمِ وَالْخَصْمِ الضَّعِيفِ الْمَظْلُومِ بِمَا يُرْضِي الْمُقْتَدِرَ صَاحِبَ الْجَاهِ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ الْحَظُّ، بَيْنَمَا يَقَعُ الإْغْمَاضُ وَالْحَيْفُ فِيهِ عَلَى الضَّعِيفِ، أَوْ لاَ يُمَكِّنُ ذَلِكَ الْمَظْلُومَ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ  

رَدُّ الْقَاضِي الْخُصُومَ إِلَى الصُّلْحِ 

8 - جَاءَ فِي «الْبَدَائِعِ»: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يَرُدَّ الْقَاضِي الْخُصُومَ إِلَى الصُّلْحِ إِنْ طَمِعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى(وَالصُّلْحُ خَيْرٌ)  فَكَانَ الرَّدُّ لِلصُّلْحِ رَدًّا لِلْخَيْرِ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه  -: «رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا، فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ بَيْنَهُمُ الضَّغَائِنَ». فَنَدَبَ - رضي الله عنه  - الْقُضَاةَ إِلَى الصُّلْحِ وَنَبَّهَ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ مِنْ غَيْرِ ضَغِينَةٍ. وَلاَ يَزِيدُ عَلَى مَرَّةٍ أَوْ مَرَّتَيْنِ، فَإِنِ اصْطَلَحَا، وَإِلاَّ قَضَى بَيْنَهُمَا بِمَا يُوجِبُ الشَّرْعُ. وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ مِنْهُمْ فَلاَ يَرُدُّهُمْ إِلَيْهِ، بَلْ يُنَفِّذُ الْقَضَاءَ فِيهِمْ؛ لأِنَّهُ  لاَ فَائِدَةَ فِي الرَّدِّ  

حَقِيقَةُ الصُّلْحِ 

9 - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ لَيْسَ عَقْدًا مُسْتَقِلًّا قَائِمًا بِذَاتِهِ فِي شُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ، بَلْ هُوَ مُتَفَرِّعٌ عَنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ، بِمَعْنَى: أَنَّهُ تَسْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ أَقْرَبِ الْعُقُودِ إِلَيْهِ شَبَهًا بِحَسَبِ مَضْمُونِهِ. فَالصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ يُعْتَبَرُ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ، وَالصُّلْحُ عَنْ مَالٍ بِمَنْفَعَةٍ يُعَدُّ فِي حُكْمِ الإْجَارَةِ، وَالصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ هِبَةُ بَعْضِ الْمُدَّعَى لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، وَالصُّلْحُ عَنْ نَقْدٍ بِنَقْدٍ لَهُ حُكْمُ الصَّرْفِ، وَالصُّلْحُ عَنْ مَالِ مُعَيَّنٍ بِمَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ فِي حُكْمِ السَّلَمِ، وَالصُّلْحُ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْمُدَّعِي أَقَلَّ مِنَ الْمَطْلُوبِ لِيَتْرُكَ دَعْوَاهُ يُعْتَبَرُ أَخْذًا لِبَعْضِ الْحَقِّ، وَإِبْرَاءً عَنَ الْبَاقِي. إِلَخْ 

وَثَمَرَةُ ذَلِكَ: أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الصُّلْحِ أَحْكَامُ الْعَقْدِ الَّذِي اعْتُبِرَ بِهِ وَتُرَاعَى فِيهِ شُرُوطُهُ وَمُتَطَلَّبَاتُهُ . قَالَ الزَّيْلَعِيُّ: وَهَذَا لأِنَّ  الأْصْلَ  فِي الصُّلْحِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَشْبَهِ الْعُقُودِ بِهِ، فَتَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ؛ لأِنَّ  الْعِبْرَةَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّورَةِ  

أَقْسَامُ الصُّلْحِ 

10 - الصُّلْحُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأْجْنَبِيِّ الْمُتَوَسِّطِ، وَيَنْقَسِمُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ، صُلْحٍ عَنِ الإْقْرَارِ، وَصُلْحٍ عَنِ الإْنْكَارِ، وَصُلْحٍ عَنِ السُّكُوتِ  

الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ 

وَهُوَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ 

الْقِسْمُ الأْوَّلُ: الصُّلْحُ مَعَ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ 

11 - وَهُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَهُوَ ضَرْبَانِ: صُلْحٌ عَنِ الأْعْيَانِ، صُلْحٌ عَنِ الدُّيُونِ 

(أ) - الصُّلْحُ عَنِ الأْعْيَانِ 

وَهُوَ نَوْعَانِ: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ، وَصُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ 

أَوَّلاً: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ 

12 - وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، كَمَنْ صَالَحَ مِنَ الدَّارِ الْمُدَّعَاةِ عَلَى نِصْفِهَا أَوْ ثُلُثِهَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ 

أَحَدِهَا: لِلْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأْصَحُّ  عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ: وَهُوَ أَنَّهُ يُعَدُّ مِنْ قَبِيلِ هِبَةِ بَعْضِ الْمُدَّعَى لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْهِبَةِ، سَوَاءٌ وَقَعَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أَوْ بِلَفْظِ الصُّلْحِ 

قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لأِنَّ  الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا لَفْظُ الصُّلْحِ، وَهِيَ سَبْقُ الْخُصُومَةِ قَدْ حَصَلَتْ  

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَهُ فِي يَدِهِ عَيْنٌ، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ: وَهَبْتُكَ نِصْفَهَا، فَأَعْطِنِي بَقِيَّتَهَا، فَيَصِحُّ وَيُعْتَبَرُ لَهُ شُرُوطُ الْهِبَةِ؛ لأِنَّ  جَائِزَ التَّصَرُّفِ لاَ يُمْنَعُ مِنْ هِبَةِ بَعْضِ حَقِّهِ، كَمَا لاَ يُمْنَعُ مِنَ اسْتِيفَائِهِ، مَا لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ؛ لأِنَّهُ  يَكُونُ قَدْ صَالَحَ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِبَعْضِهِ، فَهُوَ هَضْمٌ لِلْحَقِّ، أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يُعْطِيَهُ الْبَاقِيَ، كَقَوْلِهِ: عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا مِنْهُ أَوْ تُعَوِّضَنِي مِنْهُ بِكَذَا؛ لأِنَّهُ  يَقْتَضِي الْمُعَاوَضَةَ، فَكَأَنَّهُ عَاوَضَ عَنْ بَعْضِ حَقِّهِ بِبَعْضِهِ، وَالْمُعَاوَضَةُ عَنِ الشَّيْءِ بِبَعْضِهِ مَحْظُورَةٌ، أَوْ يَمْنَعُهُ حَقَّهُ بِدُونِ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ كَذَلِكَ  

وَالثَّالِثُ: لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ دَارًا، حَصَلَ الصُّلْحُ عَلَى قِسْمٍ مُعَيَّنٍ مِنْهَا، فَهُنَاكَ قَوْلاَنِ فِي الْمَذْهَبِ 

أَحَدُهُمَا: لاَ يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ، وَلِلْمُدَّعِي الاِدِّعَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَاقِي الدَّارِ؛ لأِنَّ  الصُّلْحَ إِذَا وَقَعَ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعَى بِهِ يَكُونُ الْمُدَّعِي قَدِ اسْتَوْفَى بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَسْقَطَ الْبَعْضَ الآْخَرَ، إِلاَّ أَنَّ الإْسْقَاطَ عَنِ الأْعْيَانِ بَاطِلٌ، فَصَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا أَنَّ بَعْضَ الْمُدَّعَى بِهِ لاَ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ كُلِّهِ، حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ نَفْسِهِ، إِذِ الْبَعْضُ دَاخِلٌ ضِمْنَ الْكُلِّ 

وَالثَّانِي: يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ، وَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى فِي بَاقِيهَا بَعْدَهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لأِنَّ  الإْبْرَاءَ عَنْ بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَى بِهَا إِبْرَاءٌ فِي الْحَقِيقَةِ عَنْ دَعْوَى ذَلِكَ الْبَعْضِ، فَالصُّلْحُ صَحِيحٌ وَلاَ تُسْمَعُ الدَّعْوَى بَعْدَهُ  

أَمَّا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، بِأَنْ صَالَحَهُ عَنْ بَيْتٍ ادَّعَى عَلَيْهِ بِهِ وَأَقَرَّ لَهُ بِهِ عَلَى سُكْنَاهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ الصُّلْحِ عَلَى قَوْلَيْنِ 

أَحَدِهِمَا: الْجَوَازُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ: وَيُعْتَبَرُ إِجَارَةً. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ فِي الأْصَحِّ، وَيُعْتَبَرُ إِعَارَةً؛ فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهَا. فَإِنْ عَيَّنَ مُدَّةً فَإِعَارَةٌ مُؤَقَّتَةٌ، وَإِلاَّ فَمُطْلَقَةٌ  

وَالثَّانِي: عَدَمُ الْجَوَازِ، وَهُوَ لِلْحَنَابِلَةِ وَوَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأِنَّهُ  صَالَحَهُ عَنْ مِلْكِهِ عَلَى مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ، فَكَأَنَّهُ ابْتَاعَ دَارَهُ بِمَنْفَعَتِهَا، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ  

ثَانِيًا: صُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ 

13 - وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى غَيْرِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، كَأَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا، فَأَقَرَّ لَهُ بِهَا ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَارٍ أُخْرَى 

وَهُوَ جَائِزٌ صَحِيحٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَيُعَدُّ بَيْعًا، وَإِنْ عُقِدَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ؛ لأِنَّهُ  مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ جَمِيعُ شُرُوطِ الْبَيْعِ: كَمَعْلُومِيَّةِ الْبَدَلِ، وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَالتَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ إِنْ جَرَى بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ رِبَا النَّسِيئَةِ 

كَذَلِكَ تَتَعَلَّقُ بِهِ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْبَيْعِ: كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَالْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، كَمَا يَفْسُدُ بِالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ وَالشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ لِلْبَيْعِ  

وَلَوْ صَالَحَهُ مِنَ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ عَلَى مَنْفَعَةِ عَيْنٍ أُخْرَى، كَمَا إِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ شَيْئًا، فَأَقَرَّ بِهِ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارِهِ، أَوْ رُكُوبِ دَابَّتِهِ، أَوْ لُبْسِ ثَوْبِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ هَذَا الصُّلْحِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ إِجَارَةً، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ سَائِرُ أَحْكَامِهَا؛ لأِنَّ  الْعِبْرَةَ لِلْمَعَانِي، فَوَجَبَ حَمْلُ الصُّلْحِ عَلَيْهَا، لِوُجُودِ مَعْنَاهَا فِيهَا، وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ  

ب - الصُّلْحُ عَنِ الدَّيْنِ 

وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ عَلَى آخَرَ دَيْنًا، فَيُقِرُّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَهُ بِهِ، ثُمَّ يُصَالِحُهُ عَلَى بَعْضِهِ، أَوْ عَلَى مَالٍ غَيْرِهِ. وَهُوَ جَائِزٌ - فِي الْجُمْلَةِ - بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّةَ اخْتِلاَفٌ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ صُوَرِهِ وَحَالاَتِهِ. وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ نَوْعَانِ: صُلْحُ إِسْقَاطٍ وَإِبْرَاءٍ، وَصُلْحُ مُعَاوَضَةٍ 

أَوَّلاً: صُلْحُ الإْسْقَاطِ  وَالإْبْرَاءِ 

وَيُسَمَّى عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صُلْحُ الْحَطِيطَةِ 

14 - وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى، وَصُورَتُهُ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، أَنْ يَقُولَ الْمُقَرُّ لَهُ: صَالَحْتُكَ عَلَى الأْلْفِ الْحَالِّ الَّذِي لِي عَلَيْكَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ 

وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ 

أَحَدِهِمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، هُوَ أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ جَائِزٌ؛ إِذْ هُوَ أَخْذٌ لِبَعْضِ حَقِّهِ وَإِسْقَاطٌ لِبَاقِيهِ، لاَ مُعَاوَضَةٌ ، وَيُعْتَبَرُ إِبْرَاءً لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ؛ لأِنَّهُ  مَعْنَاهُ، فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهُ  

وَقَدْ جَاءَ فِي (م 1044) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ: لِرَبِّ الدَّيْنِ أَنْ يُصَالِحَ مَدْيُونَهُ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ، وَيَكُونُ أَخْذًا لِبَعْضِ حَقِّهِ وَإِبْرَاءً عَنْ بَاقِيهِ 

ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيَصِحُّ بِلَفْظِ الإْبْرَاءِ  وَالْحَطِّ وَنَحْوِهِمَا، كَالإْسْقَاطِ  وَالْهِبَةِ وَالتَّرْكِ وَالإْحْلاَلِ وَالتَّحْلِيلِ وَالْعَفْوِ وَالْوَضْعِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ حِينَئِذٍ الْقَبُولُ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ الإْبْرَاءَ تَمْلِيكٌ أَمْ إِسْقَاطٌ. كَمَا يَصِحُّ بِلَفْظِ الصُّلْحِ فِي الأْصَحِّ. وَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ إِذَا وَقَعَ بِهِ وَجْهَانِ - كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ قَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ: وَهَبْتُهُ لَكَ - وَالأْصَحُّ  الاِشْتِرَاطُ؛ لأِنَّ  اللَّفْظَ بِوَضْعِهِ يَقْتَضِيهِ  

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ، فَوَضَعَ عَنْهُ بَعْضَ حَقِّهِ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْبَاقِيَ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمَا إِذَا كَانَ بِلَفْظِ الإْبْرَاءِ ، وَكَانَتِ الْبَرَاءَةُ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ إِعْطَاءِ الْبَاقِي، كَقَوْلِ الدَّائِنِ: عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي كَذَا مِنْهُ، وَلَمْ يَمْتَنِعُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ إِعْطَاءِ بَعْضِ حَقِّهِ إِلاَّ بِإِسْقَاطِ بَعْضِهِ الآْخَرِ . فَإِنْ تَطَوَّعَ الْمُقَرُّ لَهُ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ بِطِيبِ نَفْسِهِ جَازَ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِصُلْحٍ وَلاَ مِنْ بَابِ الصُّلْحِ بِسَبِيلٍ  

أَمَّا إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ فَأَشْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الأْصَحُّ  فِي الْمَذْهَبِ؛ وَذَلِكَ لأِنَّهُ  صَالَحَ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِبَعْضِهِ، فَكَانَ هَضْمًا لِلْحَقِّ. وَالثَّانِيَةِ: وَهِيَ ظَاهِرُ «الْمُوجَزِ» «وَالتَّبْصِرَةِ» أَنَّهُ يَصِحُّ  

أَمَّا لَوْ صَالَحَهُ عَنْ أَلْفٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُعَجَّلَةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ 

أَحَدِهِمَا: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ . وَاسْتَثْنَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ مِنْ ذَلِكَ دَيْنَ الْكِتَابَةِ؛ لأِنَّ  الرِّبَا لاَ يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ. وَعَلَّلَ الشَّافِعِيَّةُ عَدَمَ الصِّحَّةِ: بِأَنَّهُ تَرَكَ بَعْضَ الْمِقْدَارِ لِيَحْصُلَ الْحُلُولُ فِي الْبَاقِي، وَالصِّفَةُ بِانْفِرَادِهَا لاَ تُقَابَلُ بِعِوَضٍ؛ وَلأِنَّ  صِفَةَ الْحُلُولِ لاَ يَصِحُّ إِلْحَاقُهَا بِالْمُؤَجَّلِ، وَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ مَا تَرَكَ مِنَ الْقَدْرِ لأِجْلِهِ لَمْ يَصِحَّ التَّرْكُ . وَوَجْهُ الْمَنْعِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ مَنْ عَجَّلَ مَا أُجِّلَ يُعَدُّ مُسَلِّفًا، فَقَدْ أَسْلَفَ الآْنَ خَمْسَمِائَةٍ لِيَقْتَضِيَ عِنْدَ الأْجَلِ  أَلْفًا مِنْ نَفْسِهِ  

وَقَدْ عَلَّلَ الْحَنَفِيَّةُ الْمَنْعَ فِي غَيْرِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ: بِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ لاَ يَسْتَحِقُّ الْمُعَجَّلَ، فَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ اسْتِيفَاءً، فَصَارَ عِوَضًا، وَبَيْعُ خَمْسِمِائَةٍ بِأَلْفٍ لاَ يَجُوزُ  

وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُعَجَّلَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ اسْتِيفَاؤُهُ اسْتِيفَاءً لِبَعْضِ حَقِّهِ، وَالتَّعْجِيلُ خَيْرٌ مِنَ النَّسِيئَةِ لاَ مَحَالَةَ، فَيَكُونُ خَمْسَمِائَةٍ بِمُقَابَلَةِ خَمْسِمِائَةٍ مِثْلُهُ مِنَ الدَّيْنِ، وَالتَّعْجِيلُ فِي مُقَابَلَةِ الْبَاقِي، وَذَلِكَ اعْتِيَاضٌ عَنِ الأْجَلِ ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ أَلاَ تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ مُقَابَلَةُ الْمَالِ بِالأْجَلِ  شُبْهَةً، فَلأَنْ  تَكُونَ مُقَابَلَةُ الْمَالِ بِالأْجَلِ  حَقِيقَةً حَرَامًا أَوْلَى  

الثَّانِي: جَوَازُ ذَلِكَ - وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإْمَامِ أَحْمَدَ، حَكَاهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى وَغَيْرُهُ،  وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ قَيِّمٍ الْجَوْزِيَّةُ  

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: لأِنَّ  هَذَا عَكْسُ الرِّبَا، فَإِنَّ الرِّبَا يَتَضَمَّنُ الزِّيَادَةَ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ الأْجَلِ ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ مِنْ بَعْضِ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ سُقُوطِ الأْجَلِ ، فَسَقَطَ بَعْضُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ سُقُوطِ بَعْضِ الأْجَلِ ، فَانْتَفَعَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ هُنَا رِبًا لاَ حَقِيقَةً وَلاَ لُغَةً وَلاَ عُرْفًا، فَإِنَّ الرِّبَا الزِّيَادَةُ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ هَاهُنَا، وَاَلَّذِينَ حَرَّمُوا ذَلِكَ إِنَّمَا قَاسُوهُ عَلَى الرِّبَا، وَلاَ يَخْفَى الْفَرْقُ الْوَاضِحُ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، وَإِمَّا أَنْ تَقْضِيَ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ: عَجِّلْ لِي وَأَهَبُ لَكَ مِائَةً. فَأَيْنَ أَحَدُهُمَا مِنَ الآْخَرِ؛ فَلاَ نَصَّ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ، وَلاَ إِجْمَاعَ، وَلاَ قِيَاسَ صَحِيحٌ  

وَلَوْ صَالَحَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ حَالٍّ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ 

أَحَدِهِمَا: لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ التَّأْجِيلَ لاَ يَصِحُّ، وَيُعْتَبَرُ لاَغِيًا؛ إِذْ هُوَ مِنَ الدَّائِنِ وَعْدٌ بِإِلْحَاقِ الأْجَلِ ، وَصِفَةُ الْحُلُولِ لاَ يَصِحُّ إِلْحَاقُهَا، وَالْوَعْدُ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ  

وَالثَّانِي: لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ صِحَّةُ التَّأْجِيلِ، وَذَلِكَ؛ لأِنَّهُ  إِسْقَاطٌ لِوَصْفِ الْحُلُولِ فَقَطْ، وَهُوَ حَقٌّ لَهُ، فَيَصِحُّ، وَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الإِْحْسَانِ . قَالُوا: لأِنَّ  أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ، فَلَوْ حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ فَيَلْزَمُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ نَسَاءً، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ؛ لأِنَّهُ  بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ؛ لأِنَّ  الدَّرَاهِمَ الْحَالَّةَ وَالدَّرَاهِمَ الْمُؤَجَّلَةَ ثَابِتَةٌ فِي الذِّمَّةِ، وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ لاَ يَجُوزُ؛ لأِنَّ  النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم  «نَهَى عَنِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» ،، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ حَمْلُهُ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ حَمَلْنَاهُ عَلَى التَّأْخِيرِ تَصْحِيحًا لِلتَّصَرُّفِ؛ لأِنَّ  ذَلِكَ جَائِزٌ كَوْنُهُ تَصَرُّفًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، لاَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ  

وَلَوِ اصْطَلَحَا عَنِ الدَّيْنِ الْحَالِّ عَلَى وَضْعِ بَعْضِهِ وَتَأْجِيلِ الْبَاقِي، كَمَا لَوْ صَالَحَ الدَّائِنُ مَدِينَهُ عَنْ أَلْفٍ حَالَّةٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ 

الأْوَّلِ: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ. وَهُوَ صِحَّةُ الإْسْقَاطِ  وَالتَّأْجِيلِ . وَقَدِ اخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهُوَ الصَّوَابُ، بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ تَأْجِيلِ الْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ  

 

وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ فِي الأْصَحِّ وَالشَّافِعِيَّةِ 

وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ الإِْسْقَاطُ دُونَ التَّأْجِيلِ. وَعِلَّةُ صِحَّةِ الْوَضْعِ وَالإْسْقَاطِ : أَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ، فَلاَ مَانِعَ مِنْ صِحَّتِهِ؛ لأِنَّهُ  لَيْسَ فِي مُقَابَلَةِ تَأْجِيلٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ كَمَا لَوْ أَسْقَطَهُ كُلَّهُ؛ إِذْ هُوَ مُسَامَحَةٌ وَلَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ  

وَالثَّالِثُ: لِبَعْضِ الْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ الإْسْقَاطُ وَلاَ التَّأْجِيلُ؛ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ لاَ يَصِحُّ مَعَ الإْقْرَارِ، وَعَلَى أَنَّ الْحَالَّ لاَ يَتَأَجَّلُ  

ثَانِيًا: صُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ 

15 - وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى غَيْرِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى، بِأَنْ يُقِرَّ لَهُ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، ثُمَّ يَتَّفِقَانِ عَلَى تَعْوِيضِهِ عَنْهُ. وَحُكْمُهُ حُكْمُ بَيْعِ الدَّيْنِ،  وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ. وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ 

الأْوَّلِ: أَنْ يُقِرَّ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ، فَيُصَالِحَهُ بِالآْخَرِ، نَحْوَ: أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَيُصَالِحَهُ مِنْهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، أَوْ يُقِرَّ لَهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ، فَيُصَالِحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ. وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمَ الصَّرْفِ؛ لأِنَّهُ  بَيْعُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالآْخَرِ، وَيُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ فِي الصَّرْفِ مِنَ الْحُلُولِ وَالتَّقَابُضِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ  

وَالثَّانِي: أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِعَرَضٍ، كَفَرَسٍ وَثَوْبٍ، فَيُصَالِحَهُ عَنِ الْعَرَضِ بِنَقْدٍ، أَوْ يَعْتَرِفَ لَهُ بِنَقْدٍ، كَدِينَارٍ، فَيُصَالِحَهُ عَنْهُ عَلَى عَرَضٍ. وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لَهُ حُكْمَ الْبَيْعِ؛ إِذْ هُوَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْبَيْعِ  

وَالثَّالِثِ: أَنْ يُقِرَّ لَهُ بِدَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ - مِنْ نَحْوِ بَدَلِ قَرْضٍ أَوْ قِيمَةِ مُتْلَفٍ - فَيُصَالِحَ عَلَى مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، بِأَنْ صَالَحَهُ عَنْ دِينَارٍ فِي ذِمَّتِهِ، بِإِرْدَبِّ قَمْحٍ، وَنَحْوِهِ فِي الذِّمَّةِ. وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الصُّلْحِ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّفَرُّقُ فِيهِ مِنَ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لأِنَّهُ  إِذَا حَصَلَ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِوَضَيْنِ دَيْنًا - لأِنَّ  مَحَلَّهُ الذِّمَّةُ - فَصَارَ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ شَرْعًا  

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ بَدَلِ الصُّلْحِ فِي الْمَجْلِسِ لِيَخْرُجَ عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وَفِي اشْتِرَاطِ قَبْضِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَجْهَانِ 

أَصَحُّهُمَا: عَدَمُ الاِشْتِرَاطِ إِلاَّ إِذَا كَانَا رِبَوِيَّيْنِ  

وَالرَّابِعِ: أَنْ يَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ نَقْدٍ، بِأَنْ كَانَ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، فَصَالَحَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَنْفَعَةٍ: كَسُكْنَى دَارٍ، أَوْ رُكُوبِ دَابَّةٍ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ لَهُ عَمَلاً مَعْلُومًا. وَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الصُّلْحِ حُكْمَ الإْجَارَةِ، وَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُهَا  

الْقِسْمُ الثَّانِي 

الصُّلْحُ مَعَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ 

16 - وَذَلِكَ كَمَا إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ شَيْئًا، فَأَنْكَرَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ثُمَّ صَالَحَ عَنْهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ 

أَحَدِهِمَا لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ -: وَهُوَ جَوَازُ الصُّلْحِ عَلَى الإْنْكَارِ . بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُعْتَقِدًا أَنَّ مَا ادَّعَاهُ حَقٌّ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْتَقِدُ أَنْ لاَ حَقَّ عَلَيْهِ. فَيَتَصَالَحَانِ قَطْعًا لِلْخُصُومَةِ وَالنِّزَاعِ. أَمَّا إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَالِمًا بِكَذِبِ نَفْسِهِ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ فِي حَقِّهِ، وَمَا أَخَذَهُ الْعَالِمُ بِكَذِبِ نَفْسِهِ حَرَامٌ عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ  مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ 

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ 

أ - بِظَاهِرِ قوله تعالي : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) حَيْثُ وَصَفَ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ جِنْسَ الصُّلْحِ بِالْخَيْرِيَّةِ. مَعْلُومٌ أَنَّ الْبَاطِلَ لاَ يُوصَفُ بِالْخَيْرِيَّةِ، فَكَانَ كُلُّ صُلْحٍ مَشْرُوعًا بِظَاهِرِ هَذَا النَّصِّ إِلاَّ مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ  

ب - بِعُمُومِ قَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ» . فَيَدْخُلُ ذَلِكَ فِي عُمُومِهِ  

ج - وَبِأَنَّ الصُّلْحَ إِنَّمَا شُرِعَ لِلْحَاجَةِ إِلَى قَطْعِ الْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ، وَالْحَاجَةِ إِلَى قَطْعِهَا فِي التَّحْقِيقِ عِنْدَ الإْنْكَارِ - إِذِ الإْقْرَارُ مُسَالَمَةٌ وَمُسَاعَدَةٌ - فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَكَذَلِكَ إِذَا حَلَّ مَعَ اعْتِرَافِ الْغَرِيمِ، فَلأَنْ  يَحِلَّ مَعَ جَحْدِهِ وَعَجْزِهِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى حَقِّهِ إِلاَّ بِذَلِكَ أَوْلَى  

د - وَلأِنَّهُ  صَالَحَ بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ، فَيُقْضَى بِجَوَازِهِ؛ لأِنَّ  الْمُدَّعِيَ يَأْخُذُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ الثَّابِتِ لَهُ فِي اعْتِقَادِهِ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُؤَدِّيهِ دَفْعًا لِلشَّرِّ وَقَطْعًا لِلْخُصُومَةِ عَنْهُ، وَهَذَا مَشْرُوعٌ أَيْضًا، إِذِ الْمَالُ وِقَايَةُ الأْنْفُسِ، وَلَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ  

هـ - وَلأِنَّ  افْتِدَاءَ الْيَمِينِ جَائِزٌ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهُمَا بَذَلاَ مَالاً فِي دَفْعِ الْيَمِينِ عَنْهُمَا. فَالْيَمِينُ الثَّابِتَةُ لِلْمُدَّعِي حَقٌّ ثَابِتٌ لِسُقُوطِهِ تَأْثِيرٌ فِي إِسْقَاطِ الْمَالِ، فَجَازَ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهُ الْمَالُ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ، أَصْلُهُ الْقَوَدُ فِي دَمِ الْعَمْدِ  

وَالثَّانِي لِلشَّافِعِيَّةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: وَهُوَ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الإْنْكَارِ بَاطِلٌ  

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ 

أ - بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَوْ أَنْكَرَ الزَّوْجُ الْخُلْعَ، ثُمَّ تَصَالَحَ مَعَ زَوْجَتِهِ عَلَى شَيْءٍ، فَلاَ يَصِحُّ ذَلِكَ 

ب - وَبِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إِنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدِ اسْتَحَلَّ مَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَقَدْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَالَهُ الْحَلاَلَ؛ لأِنَّهُ  يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ مَا يَدَّعِيهِ، فَدَخَلَ فِي قَوْلِهِ صلي الله عليه وسلم : «إِلاَّ صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً» .  

ج - وَبِأَنَّ الْمُدَّعِيَ اعْتَاضَ عَمَّا لاَ يَمْلِكُهُ، فَصَارَ كَمَنْ بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَاوَضَ عَلَى مِلْكِهِ، فَصَارَ كَمَنِ ابْتَاعَ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ وَكِيلِهِ. فَالصُّلْحُ عَلَى الإْنْكَارِ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَمْلِكَ الْمُدَّعِي مَا لاَ يَمْلِكُ، وَأَنْ يَمْلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَا يَمْلِكُ، وَذَلِكَ إِنْ كَانَ الْمُدَّعِي كَاذِبًا. فَإِنْ كَانَ صَادِقًا انْعَكَسَ الْحَالُ 

د - وَلأِنَّهُ  عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ خَلاَ عَنِ الْعِوَضِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْهِ؛ فَبَطَلَ كَالصُّلْحِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ 

التَّكْيِيفُ الْفِقْهِيُّ لِلصُّلْحِ عَلَى الإْنْكَارِ 

17 - قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي (بِدَايَةِ الْمُجْتَهِدِ) 

وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى الإْنْكَارِ، فَالْمَشْهُورُ فِيهِ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّهُ يُرَاعَى فِيهِ مِنَ الصِّحَّةِ مَا يُرَاعَى فِي الْبُيُوعِ. ثُمَّ قَالَ: فَالصُّلْحُ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ مَا لاَ يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ هُوَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: صُلْحٍ يُفْسَخُ بِاتِّفَاقٍ، وَصُلْحٍ يُفْسَخُ بِاخْتِلاَفٍ، وَصُلْحٍ لاَ يُفْسَخُ بِاتِّفَاقٍ إِنْ طَالَ، وَإِنْ لَمْ يَطُلْ فَفِيهِ اخْتِلاَفٌ  

وَفَرَّقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بَيْنَ تَكْيِيفِهِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي وَبَيْنَهُ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَالُوا 

يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى مَالِ الْمُصَالَحِ بِهِ مُعَاوَضَةً فِي حَقِّ الْمُدَّعِي؛ لأِنَّهُ  يَعْتَقِدُهُ عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ؛ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُ اعْتِقَادِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ كَانَ مَا أَخَذَهُ الْمُدَّعِي عِوَضًا عَنْ دَعْوَاهُ شِقْصًا مَشْفُوعًا، فَإِنَّهَا تَثْبُتُ فِيهِ الشُّفْعَةُ لِشَرِيكِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لأِنَّهُ  أَخَذَهُ عِوَضًا، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ  

وَيَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الإْنْكَارِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَلاَصًا مِنَ الْيَمِينِ وَقَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ؛ لأِنَّ  الْمُدَّعِيَ فِي زَعْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُنْكِرِ غَيْرُ مُحِقٍّ وَمُبْطِلٌ فِي دَعْوَاهُ، وَأَنَّ إِعْطَاءَهُ الْعِوَضَ لَهُ لَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ بَلْ لِلْخَلاَصِ مِنَ الْيَمِينِ، إِذْ لَوْ لَمْ يُصَالِحْهُ وَيُعْطِ الْعِوَضَ لَبَقِيَ النِّزَاعُ وَلَزِمَهُ الْيَمِينُ. وَقَدْ عَبَّرَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِمْ: يَكُونُ صُلْحُ الإْنْكَارِ إِبْرَاءً فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ؛ لأِنَّهُ  دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَالَ افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ وَدَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ لاَ عِوَضًا عَنْ حَقٍّ يَعْتَقِدُهُ عَلَيْهِ 

وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ: لَوْ كَانَ مَا صَالَحَ بِهِ الْمُنْكِرُ شِقْصًا لَمْ تَثْبُتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ؛ لأِنَّ  الْمُدَّعِيَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَخَذَ مَالَهُ أَوْ بَعْضَهُ مُسْتَرْجِعًا لَهُ مِمَّنْ هُوَ عِنْدَهُ، فَلَمْ يَكُنْ مُعَاوَضَةً، بَلْ هُوَ كَاسْتِرْجَاعِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ  

الْقِسْمُ الثَّالِثُ 

الصُّلْحُ مَعَ سُكُوتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ 

18 - وَذَلِكَ كَمَا إِذَا ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ شَيْئًا، فَسَكَتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ أَنْ يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، ثُمَّ صَالَحَ عَنْهُ 

وَقَدِ اعْتَبَرَ الْفُقَهَاءُ - مَا عَدَا ابْنَ أَبِي لَيْلَى - هَذَا الصُّلْحَ فِي حُكْمِ الصُّلْحِ عَنِ الإْنْكَارِ؛ لأِنَّ  السَّاكِتَ مُنْكِرٌ حُكْمًا. صَحِيحٌ أَنَّ السُّكُوتَ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الإْقْرَارِ، وَعَلَى الإْنْكَارِ، إِلاَّ أَنَّهُ نَظَرًا لِكَوْنِ الأْصْلِ  بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ وَفَرَاغَهَا، فَقَدْ تَرَجَّحَتْ جِهَةُ الإْنْكَارِ. وَمِنْ هُنَا كَانَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي جَوَازِهِ تَبَعًا لاِخْتِلاَفِهِمْ فِي جَوَازِ الصُّلْحِ عَنِ الإْنْكَارِ 

وَعَلَى هَذَا، فَلِلْفُقَهَاءِ فِي الصُّلْحِ عَنِ السُّكُوتِ قَوْلاَنِ:   

أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ 

وَهُوَ جَوَازُ الصُّلْحِ عَلَى السُّكُوتِ، وَحُجَّتُهُمْ نَفْسُ الأْدِلَّةِ الَّتِي سَاقُوهَا عَلَى جَوَازِهِ عَنِ الإْنْكَارِ. وَقَدِ اشْتَرَطُوا فِيهِ نَفْسَ الشُّرُوطِ وَرَتَّبُوا ذَاتَ الأْحْكَامِ الَّتِي اعْتَبَرُوهَا فِي حَالَةِ الإْنْكَارِ 

هَذَا وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى جَوَازِهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - مَعَ إِبْطَالِهِ الصُّلْحَ عَنِ الإْنْكَارِ - حَيْثُ اعْتَبَرَهُ فِي حُكْمِ الصُّلْحِ عَلَى الإْقْرَارِ  

وَالثَّانِي: لِلشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى السُّكُوتِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَذَلِكَ لأِنَّ  جَوَازَ الصُّلْحِ يَسْتَدْعِي حَقًّا ثَابِتًا، وَلَمْ يُوجَدْ فِي مَوْضِعِ السُّكُوتِ؛ إِذِ السَّاكِتُ يُعَدُّ مُنْكِرًا حُكْمًا حَتَّى تُسْمَعَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، فَكَانَ إِنْكَارُهُ مُعَارِضًا لِدَعْوَى الْمُدَّعِي. وَلَوْ بَذَلَ الْمَالَ لَبَذَلَهُ لِدَفْعِ خُصُومَةٍ بَاطِلَةٍ، فَكَانَ فِي مَعْنَى الرِّشْوَةِ  

الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأْجْنَبِيِّ 

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الأْحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ  بِالصُّلْحِ الْكَائِنِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأْجْنَبِيِّ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي 

أَوَّلاً: مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ 

19 - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ إِذَا كَانَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأْجْنَبِيِّ ، فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ 

أ - فَإِنْ كَانَ بِإِذْنِهِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الصُّلْحُ، وَيَكُونُ الأْجْنَبِيُّ وَكِيلاً عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الصُّلْحِ، وَيَجِبُ الْمَالُ الْمُصَالَحُ بِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْوَكِيلِ، سَوَاءٌ أَكَانَ الصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ أَمْ إِنْكَارٍ؛ لأِنَّ  الْوَكِيلَ فِي الصُّلْحِ لاَ تَرْجِعُ إِلَيْهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ. وَهَذَا إِذَا لَمْ يَضْمَنِ الأْجْنَبِيُّ بَدَلَ الصُّلْحِ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَأَمَّا إِذَا ضَمِنَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ لاَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ  

ب - وَأَمَّا إِذَا كَانَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَهَذَا صُلْحُ الْفُضُولِيِّ، وَلَهُ وَجْهَانِ 

أَحَدُهُمَا: أَنْ يُضِيفَ الْفُضُولِيُّ الصُّلْحَ إِلَى نَفْسِهِ، كَأَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي: صَالِحْنِي عَنْ دَعْوَاكَ مَعَ فُلاَنٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَيُصَالِحَهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ. فَهَذَا الصُّلْحُ صَحِيحٌ، وَيَلْزَمُ بَدَلَ الصُّلْحِ الْفُضُولِيُّ، وَلَوْ لَمْ يَضْمَنْ أَوْ يُضِفِ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ؛ لأِنَّ  إِضَافَةَ الْفُضُولِيِّ الصُّلْحَ إِلَى نَفْسِهِ تَنْفُذُ فِي حَقِّهِ، وَيَكُونُ قَدِ الْتَزَمَ بَدَلَ الصُّلْحِ مُقَابِلَ إِسْقَاطِ الْيَمِينِ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْفُضُولِيِّ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِبَدَلِ الصُّلْحِ الَّذِي أَدَّاهُ، طَالَمَا أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي (التُّحْفَةِ): وَإِنَّمَا كَانَ هَكَذَا، لأِنَّ  التَّبَرُّعَ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ، بِأَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ صَحِيحٌ، وَالتَّبَرُّعُ بِإِسْقَاطِ الْخُصُومَةِ عَنْ غَيْرِهِ صَحِيحٌ، وَالصُّلْحُ عَنْ إِقْرَارٍ إِسْقَاطٌ لِلدَّيْنِ، وَالصُّلْحُ عَنْ إِنْكَارٍ إِسْقَاطٌ لِلْخُصُومَةِ، فَيَجُوزُ كَيْفَمَا كَانَ  

وَالثَّانِي: أَنْ يُضِيفَ الْفُضُولِيُّ الصُّلْحَ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُدَّعِي: تَصَالَحْ مَعَ فُلاَنٍ عَنْ دَعْوَاكَ. وَلِهَذَا الْوَجْهِ خَمْسُ صُوَرٍ: فِي أَرْبَعٍ مِنْهَا يَكُونُ الصُّلْحُ لاَزِمًا، وَفِي الْخَامِسَةِ مِنْهَا يَكُونُ مَوْقُوفًا 

وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ الْفُضُولِيَّ إِمَّا أَنْ يَضْمَنَ بَدَلَ الصُّلْحِ أَوْ لاَ يَضْمَنَ، وَإِذَا لَمْ يَضْمَنْ، فَإِمَّا أَنْ يُضِيفَ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ أَوْ لاَ يُضِيفَهُ. وَإِذَا لَمْ يُضِفْهُ، فَإِمَّا أَنْ يُشِيرَ إِلَى نَقْدٍ أَوْ عَرَضٍ أَوْ لاَ يُشِيرَ. وَإِذَا لَمْ يُشِرْ، فَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْعِوَضَ أَوْ لاَ يُسَلِّمَ. فَالصُّوَرُ خَمْسٌ هِيَ 

الصُّورَةُ الأْولَى: أَنْ يَضْمَنَ الْفُضُولِيُّ بَدَلَ الصُّلْحِ، كَمَا إِذَا قَالَ الْفُضُولِيُّ لِلْمُدَّعِي: صَالِحْ فُلاَنًا عَنْ دَعْوَاكَ مَعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ وَقَبِلَ الْمُدَّعِي تَمَّ الصُّلْحُ وَصَحَّ؛ لأِنَّهُ  فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ سِوَى الْبَرَاءَةِ، فَكَمَا أَنَّ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْصُلَ عَلَى بَرَاءَتِهِ بِنَفْسِهِ، فَلِلأْجْنَبِيِّ - أَيْضًا - أَنْ يَحْصُلَ عَلَى بَرَاءَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمِ الْفُضُولِيَّ بَدَلُ الصُّلْحِ بِسَبَبِ عَقْدِهِ الصُّلْحَ - مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ سَفِيرًا - إِلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ بِسَبَبِ ضَمَانِهِ 

الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لاَ يَضْمَنَ الْفُضُولِيُّ بَدَلَ الصُّلْحِ إِلاَّ أَنَّهُ يُضِيفُهُ إِلَى مَالِهِ، كَأَنْ يَقُولَ الْفُضُولِيُّ: قَدْ صَالَحْتُ عَلَى مَالِي الْفُلاَنِيِّ، أَوْ عَلَى فَرَسِي هَذِهِ، أَوْ عَلَى دَرَاهِمِي هَذِهِ الأَْلْفِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّ  الْمُصَالِحَ الْفُضُولِيَّ بِإِضَافَةِ الصُّلْحِ إِلَى مَالِهِ يَكُونُ قَدِ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَدِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ صَحَّ الصُّلْحُ وَلَزِمَ الْفُضُولِيَّ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ 

الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُشِيرَ إِلَى الْعُرُوضِ أَوِ النُّقُودِ الْمَوْجُودَةِ بِقَوْلِهِ: عَلَيَّ هَذَا الْمَبْلَغُ، أَوْ هَذِهِ السَّاعَةُ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّ  بَدَلَ الصُّلْحِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ قَدْ تَعَيَّنَ تَسْلِيمُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ مَالِهِ وَبِذَلِكَ تَمَّ الصُّلْحُ 

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ: هُوَ أَنَّ الْفُضُولِيَّ فِي الثَّانِيَةِ قَدْ أَضَافَ الصُّلْحَ إِلَى مَالِهِ الَّذِي نَسَبَهُ إِلَى نَفْسِهِ، أَمَّا فِي الثَّالِثَةِ فَبَدَلُ الصُّلْحِ مَعَ كَوْنِهِ مَالَهُ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ 

الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا أَطْلَقَ بِقَوْلِهِ: صَالَحْتُ عَلَى كَذَا، وَلَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَلاَ مُضِيفًا إِلَى مَالِهِ وَلاَ مُشِيرًا إِلَى شَيْءٍ، وَسَلَّمَ الْمَبْلَغَ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّ  تَسْلِيمَ بَدَلِ الصُّلْحِ يُوجِبُ بَقَاءَ الْبَدَلِ الْمَذْكُورِ سَالِمًا لِلْمُدَّعِي، وَيَسْتَلْزِمُ حُصُولَ الْمَقْصُودِ بِتَمَامِ الْعَقْدِ، فَصَارَ فَوْقَ الضَّمَانِ وَالإْضَافَةِ إِلَى نَفْسِهِ 

وَعَلَى ذَلِكَ: إِذَا حَصَلَ لِلْمُدَّعِي عِوَضٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَتَمَّ رِضَاؤُهُ بِهِ بَرِئَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلاَ شَيْءَ لِلْفُضُولِيِّ الْمُصَالِحِ مِنَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ 

وَيُسْتَفَادُ مِنْ حَصْرِ لُزُومِ التَّسْلِيمِ فِي الصُّورَةِ الرَّابِعَةِ أَنَّ تَسْلِيمَ بَدَلِ الصُّلْحِ فِي الصُّورَتَيْنِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لَيْسَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصُّلْحِ، فَيَصِحُّ فِيهِمَا وَلَوْ لَمْ يَحْصُلِ التَّسْلِيمُ، وَيُجْبَرُ الْفُضُولِيُّ عَلَى التَّسْلِيمِ 

هَذَا وَحَيْثُ صَحَّ الصُّلْحُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الأْرْبَعِ، فَإِنَّ الْفُضُولِيَّ الْمُصَالِحَ يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِالْبَدَلِ؛ لأِنَّهُ  أَجْرَى هَذَا الْعَقْدَ بِلاَ أَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ 

الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يُطْلِقَ الْفُضُولِيُّ بِقَوْلِهِ لِلْمُدَّعِي: أُصَالِحُكَ عَنْ دَعْوَاكَ هَذِهِ مَعَ فُلاَنٍ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلاَ يَكُونُ ضَامِنًا، وَلاَ مُضِيفًا إِلَى مَالِهِ وَلاَ مُشِيرًا إِلَى شَيْءٍ، ثُمَّ لاَ يُسَلِّمُ بَدَلَ الصُّلْحِ، فَصُلْحُهُ هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ؛ لأِنَّ  الْمُصَالِحَ هَاهُنَا - وَهُوَ الْفُضُولِيُّ - لاَ وِلاَيَةَ لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَلاَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَتِهِ 

وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِنْ أَجَازَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صُلْحَهُ صَحَّ؛ لأِنَّ  إِجَازَتَهُ اللاَّحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ التَّوْكِيلِ، وَيَلْزَمُ بَدَلَ الصُّلْحِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دُونَ الْمُصَالِحِ؛ لأِنَّهُ  الْتَزَمَ هَذَا الْبَدَلَ بِاخْتِيَارِهِ، وَيَخْرُجُ الأْجْنَبِيُّ الْفُضُولِيُّ مِنْ بَيْنَهُمَا، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ. وَإِنْ لَمْ يُجِزِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الصُّلْحَ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ؛ لأِنَّهُ  لاَ يَجِبُ الْمَالُ عَلَيْهِ وَالْمُدَّعَى بِهِ لاَ يَسْقُطُ 

وَلاَ فَرْقَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُقِرًّا أَوْ مُنْكِرًا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَدَلُ الصُّلْحِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا؛ لأِنَّ  الْمُصَالِحَ الْفُضُولِيَّ لَمْ يُضِفْ بَدَلَ الصُّلْحِ لِنَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَضْمَنْهُ؛ فَلاَ يَلْزَمُهُ الْبَدَلُ الْمَذْكُورُ .   

ثَانِيًا: مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ 

20 - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ غَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَكَالَةٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُصَالِحَ رَجُلٌ عَلَى دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ، وَيَلْزَمُ الْمُصَالِحَ مَا صَالَحَ بِهِ. جَاءَ فِي (الْمُدَوَّنَةِ) فِي بَابِ الصُّلْحِ: وَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: هَلُمَّ أُصَالِحُكَ مِنْ دَيْنِكَ الَّذِي عَلَى فُلاَنٍ بِكَذَا، فَفَعَلَ، أَوْ أَتَى رَجُلٌ رَجُلاً فَصَالَحَهُ عَنِ امْرَأَتِهِ بِشَيْءٍ مُسَمًّى لَزِمَ الزَّوْجَ الصُّلْحُ، وَلَزِمَ الْمُصَالِحَ مَا صَالَحَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ: أَنَا ضَامِنٌ؛ لأِنَّهُ  إِنَّمَا قَضَى عَنِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ مِمَّا يَحِقُّ عَلَيْهِ  

ثَالِثًا: مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ 

21 - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلصُّلْحِ الْجَارِي بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالأْجْنَبِيِّ حَالَتَيْنِ:   

الأْولَى: مَعَ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ 

وَفِي هَذِهِ الْحَالِ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا أَوْ دَيْنًا 

أ - فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا، وَقَالَ الأْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ لَهُ عَنْ بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، أَوْ عَنْ كُلِّهَا بِعَيْنٍ مِنْ مَالِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَتَصَالَحَا عَلَيْهِ، صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّ  دَعْوَى الإْنْسَانِ الْوَكَالَةَ فِي الْمُعَامَلاَتِ مَقْبُولَةٌ. ثُمَّ يُنْظَرُ: فَإِنْ كَانَ الأْجْنَبِيُّ صَادِقًا فِي الْوَكَالَةِ، صَارَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ مِلْكًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَإِلاَّ كَانَ فُضُولِيًّا وَلَمْ يَصِحَّ صُلْحُهُ، لِعَدَمِ الإْذْنِ فِيهِ، كَشِرَاءِ الْفُضُولِيِّ 

وَلَوْ صَالَحَهُ الْوَكِيلُ عَلَى عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْوَكِيلِ، أَوْ عَلَى دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَيَكُونُ كَشِرَائِهِ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ، وَيَقَعُ لِلآْذِنِ، فَيَرْجِعُ الْمَأْذُونُ عَلَيْهِ بِالْمِثْلِ إِنْ كَانَ مِثْلِيًّا، وَبِالْقِيمَةِ إِنْ كَانَ قِيَمِيًّا؛ لأِنَّ  الْمَدْفُوعَ قَرْضٌ لاَ هِبَةٌ 

أَمَّا لَوْ صَالَحَ عَنِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ لِنَفْسِهِ بِعَيْنٍ مِنْ مَالِهِ أَوْ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ لِلأْجْنَبِيِّ، وَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَجْرِ مَعَ الأْجْنَبِيِّ خُصُومُهُ؛ لأِنَّ  الصُّلْحَ تَرَتَّبَ عَلَى دَعْوَى وَجَوَابٍ 

ب - وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ صَالَحَهُ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ قَالَ الأْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: صَالِحْنِي عَلَى الأْلْفِ الَّذِي لَكَ عَلَى فُلاَنٍ بِخَمْسِمِائَةٍ صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّهُ  إِنْ كَانَ قَدْ وَكَّلَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَدْ قَضَى دَيْنَهُ بِإِذْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ فَقَدْ قَضَى دَيْنَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ. وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَالَ لَهُ الأْجْنَبِيُّ: وَكَّلَنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُصَالَحَتِكَ عَلَى نِصْفِهِ، أَوْ عَلَى ثَوْبِهِ هَذَا، فَصَالَحَهُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: صَالِحْنِي عَنْ هَذَا الدَّيْنِ لِيَكُونَ لِي فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ - بِنَاءً عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي بَيْعِ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ 

أَحَدُهُمَا: لاَ يَصِحُّ؛ لأِنَّهُ  لاَ يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ 

وَالثَّانِي: يَصِحُّ كَمَا لَوِ اشْتَرَى وَدِيعَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ 

وَالثَّانِيَةُ: مَعَ إِنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ 

وَفِي هَذِهِ الْحَالِ - أَيْضًا - فَرَّقُوا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا أَوْ دَيْنًا 

أ - فَإِنْ كَانَ عَيْنًا، وَصَالَحَهُ الأْجْنَبِيُّ عَنِ الْمُنْكِرِ ظَاهِرًا بِقَوْلِهِ: أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدِي وَوَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ لَهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يُظْهِرُ إِقْرَارَهُ لِئَلاَّ تَنْتَزِعَهُ مِنْهُ، فَصَالَحَهُ صَحَّ ذَلِكَ؛ لأِنَّ  دَعْوَى الإْنْسَانِ الْوَكَالَةَ فِي الْمُعَامَلاَتِ مَقْبُولَةٌ . قَالَ الشِّيرَازِيُّ: لأِنَّ  الاِعْتِبَارَ بِالْمُتَعَاقِدِينَ، وَقَدِ اتَّفَقَا عَلَى مَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِ فَجَازَ، ثُمَّ يُنْظَرُ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ مَلَكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْعَيْنَ؛ لأِنَّهُ  ابْتَاعَهُ لَهُ وَكِيلُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لَهُ فِي الصُّلْحِ لَمْ يَمْلِكِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْعَيْنَ؛ لأِنَّهُ  ابْتَاعَ لَهُ عَيْنًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَمْ يَمْلِكْهُ  

وَلَوْ قَالَ الأْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: هُوَ مُنْكِرٌ، غَيْرَ أَنَّهُ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لَهُ عَلَى دَارِي هَذِهِ لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ بَيْنَكُمَا فَلاَ يَصِحُّ عَلَى الأْصَحِّ؛ لأِنَّهُ  صُلْحُ إِنْكَارٍ  

وَإِنْ صَالَحَ لِنَفْسِهِ فَقَالَ: هُوَ مُبْطِلٌ فِي إِنْكَارِهِ؛ لأِنَّ كَ صَادِقٌ عِنْدِي، فَصَالِحْنِي لِنَفْسِي بِدَارِي هَذِهِ أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِي فَهُوَ كَشِرَاءِ الْمَغْصُوبِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى انْتِزَاعِهِ فَيَصِحُّ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ انْتِزَاعِهِ فَلاَ يَصِحُّ  

ب - وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا: وَقَالَ الأْجْنَبِيُّ: أَنْكَرَ الْخَصْمُ وَهُوَ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لَهُ بِدَابَّتِي هَذِهِ لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ بَيْنَكُمَا، فَقَبِلَ صَحَّ الصُّلْحُ، إِذْ لاَ يَتَعَذَّرُ قَضَاءُ دَيْنِ الْغَيْرِ بِدُونِ إِذْنِهِ، بِخِلاَفِ تَمْلِيكِ الْغَيْرِ عَيْنَ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَإِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ 

وَإِنْ صَالَحَهُ عَنِ الدَّيْنِ لِنَفْسِهِ فَقَالَ: هُوَ مُنْكِرٌ، وَلَكِنَّهُ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لِنَفْسِي بِدَابَّتِي هَذِهِ أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِي لآِخُذَهُ مِنْهُ فَلاَ يَصِحُّ؛ لأِنَّهُ  ابْتِيَاعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ  

رَابِعًا: مَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ 

22 - تَكَلَّمَ الْحَنَابِلَةُ عَنْ صُلْحِ الأْجْنَبِيِّ  مَعَ الْمُدَّعِي فِي حَالَةِ الإْنْكَارِ فَقَطْ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِصُلْحِهِ فِي حَالَةِ الإْقْرَارِ، وَقَالُوا 

أ - إِنَّ صُلْحَ الأْجْنَبِيِّ  عَنِ الْمُنْكِرِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ 

فَإِنْ صَالَحَ عَنْ مُنْكِرٍ لِعَيْنٍ بِإِذْنِهِ، أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ صَحَّ الصُّلْحُ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ الأْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى الْمُنْكِرِ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ بِصِحَّتِهَا، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الأْجْنَبِيُّ أَنَّ الْمُنْكِرَ وَكَّلَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ؛ لأِنَّهُ  افْتِدَاءٌ لِلْمُنْكِرِ مِنَ الْخُصُومَةِ وَإِبْرَاءٌ لَهُ مِنَ الدَّعْوَى، وَلاَ يَرْجِعُ الأْجْنَبِيُّ بِشَيْءٍ مِمَّا صَالَحَ بِهِ عَلَى الْمُنْكِرِ إِنْ دَفَعَ بِدُونِ إِذْنِهِ؛ لأِنَّهُ  أَدَّى عَنْهُ مَا لاَ يَلْزَمُهُ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ. أَمَّا إِذَا صَالَحَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ فَهُوَ وَكِيلُهُ، وَالتَّوْكِيلُ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ عَنْهُ بِإِذْنِهِ إِنْ نَوَى الرُّجُوعَ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَ عَنْهُ 

وَإِنْ صَالَحَ عَنْ مُنْكِرٍ لِدَيْنٍ بِإِذْنِهِ أَوْ بِدُونِ إِذْنِهِ، صَحَّ الصُّلْحُ، سَوَاءٌ اعْتَرَفَ الأْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ، أَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ؛ لأِنَّ  قَضَاءَ الدَّيْنِ عَنْ غَيْرِهِ جَائِزٌ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَإِنَّ «عَلِيًّا وَأَبَا قَتَادَةَ - رضي الله عنهما - قَضَيَا الدَّيْنَ عَنِ الْمَيِّتِ، وَأَقَرَّهُمَا النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم » ،، وَلَوْ لَمْ يَقُلِ الأْجْنَبِيُّ إِنَّ الْمُنْكِرَ وَكَّلَهُ فِي الصُّلْحِ عَنْهُ؛ لأِنَّهُ  افْتِدَاءٌ لِلْمُنْكِرِ مِنَ الْخُصُومَةِ، وَإِبْرَاءٌ لَهُ مِنَ الدَّعْوَى، وَلاَ يَرْجِعُ الأْجْنَبِيُّ عَلَى الْمُنْكِرِ بِشَيْءٍ مِمَّا صَالَحَ بِهِ إِنْ دَفَعَ بِدُونِ إِذْنِهِ؛ لأِنَّهُ  أَدَّى عَنْهُ مَا لاَ يَلْزَمُهُ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ. فَإِنْ أَذِنَ الْمُنْكِرُ لِلأْجْنَبِيِّ فِي الصُّلْحِ، أَوِ الأْدَاءِ عَنْهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا ادَّعَى عَنْهُ إِنْ نَوَى الرُّجُوعَ بِمَا دَفَعَ عَنْهُ  

ب - وَإِنْ صَالَحَ الأْجْنَبِيُّ الْمُدَّعِيَ لِنَفْسِهِ، لِتَكُونَ الْمُطَالَبَةُ لَهُ فَلاَ يَخْلُو: إِمَّا أَنْ يَعْتَرِفَ لِلْمُدَّعِي بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ، أَوْ لاَ يَعْتَرِفَ لَهُ 

فَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ لَهُ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلاً؛ لأِنَّهُ  اشْتَرَى مِنَ الْمُدَّعِي مَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ، وَلَمْ تَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ خُصُومَةٌ يَفْتَدِي مِنْهَا، أَشْبَهَ مَا لَوِ اشْتَرَى مِنْهُ مِلْكَ غَيْرِهِ 

وَإِنِ اعْتَرَفَ لَهُ بِصِحَّةِ دَعْوَاهُ وَصَالَحَ الْمُدَّعِي، وَالْمُدَّعَى بِهِ دَيْنٌ لَمْ يَصِحَّ؛ لأِنَّهُ  اشْتَرَى مَا لاَ يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ وَلأِنَّهُ  بَيْعٌ لِلدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ. وَإِذَا كَانَ بَيْعُ الدَّيْنِ الْمُقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْ هُوَ فِي ذِمَّتِهِ لاَ يَصِحُّ؛ فَبَيْعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ مُنْكِرٍ مَعْجُوزٍ عَنْ قَبْضِهِ مِنْهُ أَوْلَى 

وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ عَيْنًا، وَعَلِمَ الأْجْنَبِيُّ عَجْزَهُ عَنِ اسْتِنْقَاذِهَا مِنْ مُدَّعًى عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّهُ  اشْتَرَى مَا لاَ يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِهِ كَشِرَاءِ الشَّارِدِ. وَإِنْ ظَنَّ الأْجْنَبِيُّ الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا صَحَّ؛ لأِنَّهُ  اشْتَرَى مِنْ مَالِكٍ مِلْكَهُ الْقَادِرَ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ فِي اعْتِقَادِهِ، أَوْ ظَنَّ عَدَمَ الْمَقْدِرَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا صَحَّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّ  الْبَيْعَ تَنَاوَلَ مَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ فَلَمْ يُؤَثِّرْ ظَنُّ عَدَمِهِ 

ثُمَّ إِنْ عَجَزَ الأْجْنَبِيُّ بَعْدَ الصُّلْحِ ظَانًّا الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِنْقَاذِهَا خُيِّرَ الأْجْنَبِيُّ بَيْنَ فَسْخِ الصُّلْحِ - وَلأِنَّهُ  لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ إِلَى بَدَلِهِ - وَبَيْنَ إِمْضَاءِ الصُّلْحِ؛ لأِنَّ  الْحَقَّ لَهُ كَخِيَارِ الْعَيْبِ. وَإِنْ قَدَرَ عَلَى انْتِزَاعِهِ اسْتَقَرَّ الصُّلْحُ  

ج - وَإِنْ قَالَ الأْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: أَنَا وَكِيلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي مُصَالَحَتِكَ عَنِ الْعَيْنِ، وَهُوَ مُقِرٌّ لَكَ بِهَا فِي الْبَاطِنِ، وَإِنَّمَا يَجْحَدُكَ فِي الظَّاهِرِ فَظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ: لاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ؛ لأِنَّهُ  يَجْحَدُهَا فِي الظَّاهِرِ لِيَنْتَقِصَ الْمُدَّعِي بَعْضَ حَقِّهِ، أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهِ؛ فَهُوَ هَاضِمٌ لِلْحَقِّ يَتَوَصَّلُ إِلَى أَخْذِ الْمُصَالَحِ عَنْهُ بِالظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَافَهَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ صِحَّةَ دَعْوَاكَ، وَأَنَّ هَذَا لَكَ، وَلَكِنْ لاَ أُسَلِّمُهُ إِلَيْكَ وَلاَ أُقِرُّ لَكَ بِهِ عِنْدَ الْحَاكِمِ حَتَّى تُصَالِحَنِي مِنْهُ عَلَى بَعْضِهِ أَوْ عِوَضٍ عَنْهُ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَقَالَ الْقَاضِي: يَصِحُّ. ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى ذَلِكَ مَلَكَ الْعَيْنَ، وَلَزِمَهُ مَا أَدَّى عَنْهُ وَرَجَعَ الأْجْنَبِيُّ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ إِنْ كَانَ أَذِنَ لَهُ فِي الدَّفْعِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الإْذْنَ فِي الدَّفْعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَيَكُونُ حُكْمُهُ كَمَنْ أَدَّى عَنْ غَيْرِهِ دَيْنًا بِلاَ إِذْنِهِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَكَالَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ رُجُوعَ لِلأْجْنَبِيِّ عَلَيْهِ وَلاَ يَحْكُمُ لَهُ بِمِلْكِهَا؛ ثُمَّ إِنْ كَانَ الأْجْنَبِيُّ قَدْ وَكَّلَ فِي الشِّرَاءِ، فَقَدْ مَلَكَهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَاطِنًا؛ لأِنَّهُ  اشْتَرَاهَا بِإِذْنِهِ فَلاَ يَقْدَحُ إِنْكَارُهُ فِي مِلْكِهَا؛ لأِنَّ  مِلْكَهُ ثَبَتَ قَبْلَ إِنْكَارِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ ظَالِمٌ بِالإْنْكَارِ لِلأْجْنَبِيِّ، وَإِنْ لَمْ يُوَكِّلْهُ لَمْ يَمْلِكْهَا؛ لأِنَّهُ  اشْتَرَى لَهُ عَيْنًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ 

وَلَوْ قَالَ الأْجْنَبِيُّ لِلْمُدَّعِي: قَدْ عَرَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صِحَّةَ دَعْوَاكَ، وَيَسْأَلُكَ الصُّلْحَ عَنْهُ، وَكَّلَنِي فِيهِ فَصَالَحَهُ صَحَّ؛ لأِنَّهُ  هَاهُنَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ أَدَائِهِ، بَلِ اعْتَرَفَ بِهِ وَصَالَحَهُ عَلَيْهِ مَعَ بَذْلِهِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ لَمْ يَجْحَدْهُ  

أَرْكَانُ الصُّلْحِ 

23 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلصُّلْحِ رُكْنًا وَاحِدًا: وَهُوَ الصِّيغَةُ الْمُؤَلَّفَةُ مِنَ الإْيجَابِ  وَالْقَبُولِ الدَّالَّةُ عَلَى التَّرَاضِي. وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - حَيْثُ عَدُّوا أَرْكَانَ الصُّلْحِ ثَلاَثَةً 

1 - الصِّيغَةُ 

2 - وَالْعَاقِدَانِ 

3 - وَالْمَحَلُّ. (وَهُوَ الْمُصَالَحُ بِهِ وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ). انْظُرْ مُصْطَلَحَ (عَقْد) 

شُرُوطُ الصُّلْحِ 

24 - لِلصُّلْحِ شُرُوطٌ يَلْزَمُ تَحَقُّقُهَا لِوُجُودِهِ، وَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ مَاهِيَّتِهِ، مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الصِّيغَةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْعَاقِدَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُصَالَحِ عَنْهُ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ، وَهُوَ بَدَلُ الصُّلْحِ 

وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي 

الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصِّيغَةِ 

25 - الْمُرَادُ بِالصِّيغَةِ: الإْيجَابُ  وَالْقَبُولُ الدَّالَّيْنِ عَلَى التَّرَاضِي. مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُكَ مِنْ كَذَا عَلَى كَذَا، أَوْ مِنْ دَعْوَاكَ كَذَا عَلَى كَذَا، وَيَقُولَ الآْخَرُ: قَبِلْتُ، أَوْ رَضِيتُ أَوْ مَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِهِ وَرِضَاهُ. فَإِذَا وُجِدَ الإْيجَابُ  وَالْقَبُولُ فَقَدْ تَمَّ الصُّلْحُ  

هَذَا، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي بَابِ الصُّلْحِ لِبَيَانِ الشُّرُوطِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصِيغَتِهِ؛ نَظَرًا لاِعْتِبَارِهِمْ عَقْدَ الصُّلْحِ غَيْرَ قَائِمٍ بِذَاتِهِ، بَلْ تَابِعًا لأَقْرَبِ الْعُقُودِ بِهِ فِي الشَّرَائِطِ وَالأْحْكَامِ، بِحَيْثُ يُعَدُّ بَيْعًا إِذَا كَانَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ، وَهِبَةً إِذَا كَانَ عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، وَإِبْرَاءً إِذَا كَانَ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى، اكْتِفَاءً مِنْهُمْ بِذِكْرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ مِنْ شُرُوطٍ وَأَحْكَامٍ فِي تِلْكَ الْعُقُودِ الَّتِي يَلْحَقُ بِهَا الصُّلْحُ، بِحَسَبِ مَحَلِّهِ وَمَا تَصَالَحَا عَلَيْهِ 

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ: فَقَدْ تَكَلَّمُوا عَلَى صِيغَةِ الصُّلْحِ بِصُورَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ فِي بَابِهِ، وَأَتَوْا عَلَى ذِكْرِ بَعْضِ شُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا، وَسَكَتُوا عَنِ الْبَعْضِ الآْخَرِ، اكْتِفَاءً بِمَا أَوْرَدُوهُ مِنْ تَفْصِيلاَتٍ تَتَعَلَّقُ بِالصِّيغَةِ فِي أَبْوَابِ الْبَيْعِ وَالإْجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالإْبْرَاءِ، الَّتِي يَأْخُذُ الصُّلْحُ أَحْكَامَهَا بِحَسَبِ أَحْوَالِهِ وَصُوَرِهِ 

أَمَّا كَلاَمُهُمْ فِي بَابِ الصُّلْحِ عَنْ صِيغَتِهِ وَشُرُوطِهَا: فَهُوَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الصُّلْحِ حُصُولُ الإْيجَابِ  مِنَ الْمُدَّعِي عَلَى كُلِّ حَالٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ الصُّلْحُ بِدُونِ إِيجَابٍ مُطْلَقًا. أَمَّا الْقَبُولُ، فَيُشْتَرَطُ فِي كُلِّ صُلْحٍ يَتَضَمَّنُ الْمُبَادَلَةَ بَعْدَ الإْيجَابِ  

ثُمَّ قَالُوا: تُسْتَعْمَلُ صِيغَةُ الْمَاضِي فِي الإْيجَابِ  وَالْقَبُولِ، وَلاَ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِصِيغَةِ الأْمْرِ، وَعَلَى ذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمُدَّعِي لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالِحْنِي عَلَى الدَّارِ الَّتِي تَدَّعِيهَا بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَلاَ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِقَوْلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: صَالَحْتُ؛ لأِنَّ  طَرَفَ الإْيجَابِ  كَانَ عِبَارَةً عَنْ طَلَبِ الصُّلْحِ، وَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِلإْيجَابِ، فَقَوْلُ الطَّرَفِ الآْخَرِ: قَبِلْتُ، لاَ يَقُومُ مَقَامَ الإْيجَابِ . أَمَّا إِذَا قَالَ الْمُدَّعِي ثَانِيًا: قَبِلْتُ. فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ 

وَبِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ 

إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ 

كَالْعَقَارَاتِ، وَالأْرَاضِي، وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَنَحْوِهَا فَيُشْتَرَطُ الْقَبُولُ بَعْدَ الإْيجَابِ  لِصِحَّةِ الصُّلْحِ؛ لأِنَّ  الصُّلْحَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لاَ يَكُونُ إِسْقَاطًا حَتَّى يَتِمَّ بِإِرَادَةِ الْمُسْقِطِ وَحْدَهَا، وَسَبَبُ عَدَمِ كَوْنِهِ إِسْقَاطًا مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ جَرَيَانِ الإْسْقَاطِ  فِي الأْعْيَانِ 

وَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ وَاقِعًا عَلَى جِنْسٍ آخَرَ، فَيُشْتَرَطُ الْقَبُولُ - أَيْضًا - سَوَاءٌ أَكَانَ الْمُدَّعَى بِهِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أَوْ كَانَ مِمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ: كَالنَّقْدَيْنِ، وَمَا فِي حُكْمِهِمَا 

وَسَبَبُ اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ فِي هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ: أَنَّ الصُّلْحَ فِيهِمَا مُبَادَلَةٌ، وَفِي الْمُبَادَلَةِ يَجِبُ الْقَبُولُ، وَلاَ يَصِحُّ الْعَقْدُ بِدُونِهِ 

أَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِالإْيجَابِ  وَحْدَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَتَضَمَّنُ إِسْقَاطَ بَعْضِ الْحُقُوقِ، فَيُكْتَفَى فِيهِ بِالإْيجَابِ ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ 

وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ، بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ وَالْمُصَالَحِ بِهِ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وَهُمَا لاَ يَتَعَيَّنَانِ بِالتَّعْيِينِ، فَهَاهُنَا يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِمُجَرَّدِ إِيجَابِ الدَّائِنِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمَدِينِ؛ لأِنَّ  هَذَا الصُّلْحَ عِبَارَةٌ عَنْ إِسْقَاطِ بَعْضِ الْحَقِّ، وَالإْسْقَاطُ لاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ، بَلْ يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ إِيجَابِ الْمُسْقِطِ 

فَمَثَلاً: لَوْ قَالَ الدَّائِنُ لِلْمَدِينِ: صَالَحْتُكَ عَلَى مَا فِي ذِمَّتِكَ لِي مِنَ الْخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى مِائَتَيْ دِينَارٍ فَيَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِمُجَرَّدِ الإْيجَابِ ، وَلاَ يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمَدِينِ، وَيَلْزَمُ الصُّلْحُ مَا لَمْ يَرُدَّهُ الدَّيْنُ. إِلاَّ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ الْمُدَّعِيَ؛ لأِنَّهُ  لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُوجِبَ، فَيُشْتَرَطُ قَبُولُ الْمُدَّعِي؛ سَوَاءٌ أَكَانَ الصُّلْحُ عَمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، أَمْ عَمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ، وَذَلِكَ لأِنَّ  هَذَا الصُّلْحَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِسْقَاطًا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْقِطُ الْمُدَّعِيَ أَوِ الدَّائِنَ، إِذْ لاَ يُمْكِنُ سُقُوطُ حَقِّهِ بِدُونِ قَبُولِهِ وَرِضَاهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَاوَضَةً، وَفِي الْمُعَاوَضَةِ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الإْيجَابِ  وَالْقَبُولِ مَعًا. أَمَّا فِي الصُّلْحِ عَمَّا لاَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ الَّذِي يَقَعُ عَلَى عَيْنِ الْجِنْسِ، فَيَقُومُ طَلَبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الصُّلْحَ مَقَامَ الْقَبُولِ  

الصُّلْحُ بِالتَّعَاطِي 

26 - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى انْعِقَادِ الصُّلْحِ بِالتَّعَاطِي إِذَا كَانَتْ قَرَائِنُ الْحَالِ دَالَّةً عَلَى تَرَاضِيهِمَا بِهِ، كَمَا لَوْ أَعْطَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَالاً لِلْمُدَّعِي لاَ يَحِقُّ لَهُ أَخْذُهُ وَقَبَضَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ الْمَالَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ لَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى آخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الدَّيْنَ، وَأَعْطَى الْمُدَّعِي شَاةً وَقَبَضَهَا الْمُدَّعِي مِنْهُ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِالتَّعَاطِي، وَلَيْسَ لِلْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ الاِدِّعَاءُ بِالأْلْفِ دِرْهَمٍ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ اسْتِرْدَادُ تِلْكَ الشَّاةِ 

أَمَّا إِذَا أَعْطَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمُدَّعِي بَعْضَ الْمَالِ الَّذِي كَانَ لِلْمُدَّعِي حَقُّ أَخْذِهِ وَقَبَضَهُ الْمُدَّعِي، وَلَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا كَلاَمٌ يَدُلُّ عَلَى الصُّلْحِ فَلاَ يَنْعَقِدُ الصُّلْحُ بِالتَّعَاطِي، وَلِلْمُدَّعِي طَلَبُ بَاقِي الدَّيْنِ؛ لأِنَّ  أَخْذَ الْمُدَّعِي بَعْضًا مِنَ الْمَالِ الَّذِي لَهُ حَقُّ أَخْذِهِ، يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ اسْتِيفَاءَ بَعْضِ حَقِّهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْبَعْضَ الْبَاقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْمِقْدَارِ الَّذِي أَخَذَهُ وَعَدَلَ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِالْبَاقِي، وَالْحَقُّ لاَ يَسْقُطُ بِالشَّكِّ  

الشُّرُوطُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْعَاقِدَيْنِ 

-27وَهِيَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الأْهْلِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْوِلاَيَةِ، وَمِنْهَا مَا يَرْجِعُ لِلتَّرَاضِي. انْظُرْ مُصْطَلَحَاتِ: (أَهْلِيَّة، تَرَاضِي، عَقْد، وِلاَيَة).  

الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة الكويت الطبعة الأولي  1433 هـ - 2012 م   الجزء /  السابع والعشرون  ، الصفحة / 323 

مركز الراية للدراسات القانونية